«هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين.. لا ينطق.. إنما يتكلم به الرجال». مقولة بليغة للخليفة الرابع على بن أبى طالب قالها فى وجه الخوارج الذين غالوا فخرجوا عليه فأربكوا الأمة. لكن الأمة ولأكثر من 1400 سنة لا تريد أن تتعلم. فى كل زمان وكل مكان يظهر فيها خوارج جدد.. أناس يغالون فلا يفرقون بين القرآن واستنطاق القرآن. لا يرون كلامهم استنطاقاً للنص وإنما النص ذاته. احتكروا الدين لحسابهم معتبرين كلامهم الحقيقة وليس رؤيةً لها. يرون تدينهم الدين نفسه وتدين غيرهم إن اختلف مع طقوسهم خروجاً عن الدين من حقهم أن يقمعوه. ومبرراتهم ميسورة، فكل ما يخالف تدينهم يسمونه بدعة. ولو تأنوا وأنصفوا وفكروا فسيجدون أنهم يأتون ببدع ربما تفوق ما يدعونه على مخالفيهم. والتفرقة بين الدين والتدين شديدة الأهمية فى كل وقت، بالذات هذه الأيام التى تدعى فيها أصوات مغالية أنها الممثل الشرعى الوحيد للدين وصاحبة الحق الحصرى فى استنطاق العقيدة. تزعم أن ما تقوله ليس كلام الرجال حتى يؤخذ منه ويُرد عليه، إنما هو كلام الله الذى يتعين أن يؤخذ، وفقاً لرؤيتها، كما هو وكما تستنطقه هى لا غيرها. مع أن الدين شىء والتدين شىء آخر وإن اعتمد الواحد منهما على الآخر. الدين جوهره واحد: الإيمان. أما التدين فله أكثر من درجة ومظهر وتطبيق. الدين غير قابل للنقد. أما التدين فسلوك بشرى يقبل النقد والتعديل. الفارق بينهما مثل الفارق بين العبادة والعابد. فلا يمكن أن نهزأ أو نستخف بعبادة.. لكن يجوز أن ننتقد سلوك المتعبد، فالصلاة مثلاً ليست محلاً للنقاش. أما العابد الذى يصلى فيطيل صلاته تاركاً المراجعين أمام مكتبه فيعبّر عن تدين ينبغى مراجعته وانتقاده. التدين وتنوعاته هو الذى جعل النص الدينى عبر التاريخ حمّال أوجه.. ولهذا عاش واستمر. أما تجميد التدين على مقاس بعينه فلا يضر فقط بحق المتدينين فى التعبير عن رؤيتهم بالشكل الذى يرون أنه يعزز إيمانهم، وإنما يظلم الدين نفسه. ولتقريب الأمر، فسيكون ظلماً أن نسخر من الأمومة لأن أماً قتلت ابنها. أو نستخف بالأبوة لأن أباً رفض الإنفاق على أولاده. فليست كل أم تجسد الأمومة وليس كل أب يجسد الأبوة. وليس كل متدين كذلك يجسد الدين. ولحسن حظى وأنا أعد هذا المقال أن تعرّفت على كتاب جديد للقاضى والمفكر المصرى المتميز عبدالجواد ياسين. الكتاب بعنوان «الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع». كتاب يستحق أن يُقرأ. يفرق بين الدين كحقيقة مطلقة مرتبطة بالنص المنزّل، والتدين كسلوك نسبى يتغير من عصر إلى آخر. ويشير المستشار ياسين فى كتابه إلى أن الإيمان بالله والأخلاق الكلية يمثلان المطلق فى الدين. أما التشريع فسلوك يندرج ضمن سلوكيات التدين السائدة. والمشكلة فى العالم الإسلامى أنه مع غياب التفرقة بين الدين والتدين جرى إدخال التشريع وما أنتجه من أحكام ومفردات فى بنية الدين نفسه، ما سمح بدخول أهواء البشر ليزعموا أن استنطاقهم للنص وتصوراتهم عن التدين الصحيح هى الدين نفسه. ولو كان الدين والتدين شيئاً واحداً مثلاً لكان ما فعله الدكتور عماد عبدالغفور مؤخراً بدعة وخروجاً على الدين، فقد انشق عن الجماعة وخرج هو ومجموعة من السلفيين عن حزب النور ليشكل حزباً جديداً ينافس به من سبق ووقف معهم فى خندق واحد مدافعاً عن شكل للتدين تعتبره الدعوة السلفية الدين نفسه. لكن الرجل انسحب ليخدم الدين بطريقة تدين أخرى غير التى يراها حزب النور والدعوة السلفية. المسألة سهلة وبسيطة. الدين يرفض أن يتكلم أحد باسمه.. ولهذا يجب أن يخجل المتدين من نفسه لو استنطق الدين على مقاس دماغه.. والأهم ألا يخجل الناس فينساقوا وراء شكل يفرضه البعض للتدين وينسوا أنهم أيضاً متدينون.