عندما درسنا في الاقتصاد معني الإفلاس كان يعني: العجز عن الوفاء بالالتزام وعدم امتلاك القدرة المالية.. وهذا المعني السائد في كل العصور ففي تعريف المفلس قالوا: من لا درهم له ولا دينار وفي الشريعة مفهوم جديد للإفلاس الذي جاء في الحديث "إنما المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وحج وزكاة ثم يأتي وقد سب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا.. فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فلم تبق له حسنات.." هذا هو المدلول الحقيقي لمعني الإفلاس الديني الذي ينبغي مقاومته وتصويبه لأن كل إفلاس غيره يمكن معالجته ويسهل استرداده. ومن الأدواء الفتاكة التي أصابت نخاع التيار الديني في كيانه وفي أفراده انفصال العبادة الشرعية عن السلوك اليومي بمعني أن تري مدعي الالتزام والتدني منعزل بعبادته جاف في معاملته متعجرف علي غيره كأنه هو وحده فقط أهل الولاية وغيره أهل الفسق والغواية.. وهذا هو معني الإفلاس الذي بينه الحديث النبوي الشريف.. ولو أمعن أهل الإفلاس في روح النصوص الدينية وتدبروا بقدر من الوعي لتعدلت أفعالهم وسلوكهم وسمت أخلاقهم إلي عالي الأخلاق ففي قوله تعالي: "اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون" وفي قوله تعالي: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" تتضح جلية معاني العبادة التي تسمو بالسلوك وإن غاية العبادة من صلاة وصيام وغيرها هي الامتناع عن الفحش وعن السوء وتقويم السلوك الإنساني.. فمن آثار الإيمان ومن مقتضيات امتثال أوامر الدين فعل الصالحات والبعد عن الأذي وكل ما يصدر عن النفس من شرور.. وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني إنما هو ما وقر في القلب وصدقه العمل فيتطابق ظاهر النفس مع باطنها فما الهدي الظاهر الذي يمتثله بعضهم من إصلاح البرانية دون إصلاح الجوانية ما هي إلا كذب علي النفس وكذب علي الآخرين ولا يكون صاحب هذا الفعل متسقا مع نفسه فدائما يفقد احترامه أمام نفسه.. إن صورة التدين الظاهري هي صورة ممقوتة عند الله وعند الله "يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم" وكثير من هولاء نراهم يتصدرون المشاهد مهابي الطلعة. مكتملي المظهر لكنهم فاسدي المخبر يوظفون معارفهم الدينية وما تعلموه من قشور في تضليل غيرهم وتخريب ذممهم وحقيقة اكتمال التدين ونقاؤه هو إقامة الدين الحق والتدين الرفيع الصالح. فليس كل من يدعي الورع والصلاح والتقوي هو كذلك فسرعان ما ينكشف الزيف وتتهاوي الأقنعة بظهور علامات الفجور والتأثر بالأحقاد المفسدة والافتراء واختلاق التهم والأكاذيب. إن المتدين الحق غير المفلس هو من يتذرع بالصدق والإخلاص ظاهره كباطنه متوائم مع نفسه ومع مجتمعه صادق بعباداته وبعباداته رائق المشرب والاعتقاد لا تدنسه السلوكيات الضالة الضارة ولا ينبجس منه إلا صفو الأخلاق مؤمن بالله مستقيم مع الخلق. لا ينطبق عليه قول الشاعر الكميت: كلام النبيين الهداة كلامنا.. وأفعال أهل الجاهلية نفعل.