قال مصرفيون ومحللون إن مصرف سوريا المركزي تخلى إلى حد كبير عن جهوده الرامية لدعم قيمة العملة السورية، بهدف حماية ما تبقى لديه من احتياطيات النقد الأجنبي، التي تآكلت جراء الحرب الأهلية الدائرة في البلاد. وفي أول عامين بعد اندلاع الثورة المناوئة للرئيس السوري بشار الأسد في أوائل 2011، أجبرت الحكومة البنوك الخاصة على بيع احتياطياتها من النقد الأجنبي بأسعار حددتها السلطات. هذه الخطوة مكنت الحكومة من إبطاء وتيرة انخفاض قيمة الليرة السورية، لكن المصرف المركزي اضطر إلى تقليص احتياطياته لتلبية الطلب على الدولار الأمريكي بأسعاره المصطنعة. وبدأ المصرف المركزي هذا الشهر السماح للبنوك التجارية ومكاتب الصرافة المرخصة ببيع الدولار بالأسعار التي تريدها، وهي خطوة محفوفة بالمخاطر من شأنها أن تقلل من استنزاف احتياطيات سوريا، ولكنها قد تعرض عملتها لضغط نزولي جديد. وقال سمير سيفان، الخبير الاقتصادي السوري البارز الذي يعيش خارج بلاده ولكنه عمل في مؤسسات بحثية شبه حكومية بسوريا قبل الثورة، إن السلطات خفضت قيمة الليرة بشكل متعمد من قبل، لكنها مضطرة الآن للوقوف مكتوفة الأيدي وترك العملة تهبط. وتساءل: "كيف يمكن للسلطات أن تحمي الليرة في ظل انكماش الاقتصاد بأكثر من 50%، ونفاد موارد الدولة؟". وقبل اندلاع الثورة، بلغ سعر صرف الليرة أمام الدولار نحو 46 ليرة، لكن العملة السورية شهدت هبوطا حادا بعد العقوبات الدولية التي فُرضت على الحكومة السورية، والضرر الذي لحق بقطاع الصناعة في البلاد جراء القتال، فضلا عن لجوء السوريين الذين تملَّكهم الذعر إلى تحويل أموالهم للخارج. ووصلت العملة السورية إلى أدنى مستوى لها الشهر الماضي، عندما بلغ سعر صرفها 126 ليرة أمام الدولار، وتم تداولها هذا الشهر في نطاق يتراوح بين 115 و120. وقبل بدء الثورة، كانت تقديرات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن حجم احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي السوري، التي تحيطها السلطات بسرية تامة، يبلغ نحو 18 مليار دولار. وقال أديب ميالة، حاكم المصرف المركزي السوري، الأسبوع الماضي، إن تقديرات بعض المحللين بأن احتياطيات النقد الأجنبي انخفضت إلى أربعة مليارات دولار غير صحيحة. وأضاف، في مكتبة المصرف المركزي التي تضررت من تفجير سيارة ملغومة في الثامن من أبريل: "هناك احتياطيات كبيرة خلف هذا الاقتصاد، احتياطيات يمكن من خلالها تأمين المواد الأولية والمواد الأساسية والمواد الضرورية للصناعة، والمواد الاستهلاكية الضرورية كلها ما زالت موجودة ومتوفرة في البلاد (...) هذه المواد موجودة في الأسواق وبأسعار معتدلة". غير أن ميالة رفض إعطاء رقم محدد، فيما قال مسؤول كبير يدير فرع بنك أجنبي في سوريا إن حماية الاحتياطيات باتت تمثل أولوية لدى المصرف المركزي. وأضاف المسؤول عن السياسة الجديدة بشأن العملة: "يقول الحاكم (ميالة) بجدية إنه لم يعد يستطيع التدخل، وسيستسلم لقوى السوق ولن يقاومها". وطلب المسؤول عدم ذكر اسمه، كغيره من المصرفيين الذين أُجريت معهم مقابلات لإعداد هذا المقال، نظرا لحساسية القضية على الصعيدين السياسي والتجاري. وأوضح مصرفيون أن البنك المركزي لا يزال يقدم دولارات لاستيراد 21 سلعة أساسية إلى سوريا بسعر تفضيلي يقل 20% على الأقل عن سعر السوق، لكنه يسمح لقوى السوق بالعمل إلى حد كبير. وذكر آخر حضر هذا الشهر اجتماعا مع ميالة، نوقشت فيه القضية، إن البلاد انتقلت بشكل أساسي إلى "تعويم محكوم" لعملتها، يبيع فيه المصرف المركزي الدولارات أو يشتريها للحد من التقلبات الشديدة، ولكنه لن يسعى إلى تحديد القيمة الأساسية لليرة. وقال بعض العاملين في سوق الصرف الأجنبي في دمشق إنهم يعتقدون أن المصرف المركزي يراهن على أن السماح بالتداول الحر لليرة سيؤدي في النهاية إلى استقرارها، وقد يصل في النهاية إلى مستوى يتحقق فيه التوازن بين عرض وطلب الدولار، ما يقلل من الحوافز التي تدفع الناس إلى المضاربة ضد العملة السورية في السوق السوداء. وأكد أحد العاملين بشركة صرافة كبرى في دمشق أن "السعر الآن أكثر واقعية، وهو ما يحد من المضاربة". وهناك عاملان ربما شجعا المصرف المركزي على السماح بتعويم الليرة؛ أحدهما يتمثل في أن سوريا رتبت لمجموعة من صفقات المقايضة مع إيران والعراق وبعض الدول الأخرى للحصول على واردات كثيرة، ما قلل من احتياجها للإبقاء على سعر صرف قوي لعملتها بشكل مصطنع. علاوة على ذلك، وفي ظل استمرار المساعدات المالية الدولية للمعارضة السورية، هناك تدفقات ضخمة من الدولارات تدخل المناطق الخاضعة لسيطرة مقاتلي المعارضة ثم تشق طريقها عبر الخطوط الأمامية إلى الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة. هذه التدفقات قد تعني أن سوق العملة ليست بعيدة عن نقطة التوزان. وربما زادت ثقة الحكومة أيضا بفضل المساعدات التي تتلقاها من حلفائها الدبلوماسيين. وقال ميالة إن إيران منحت سوريا من قبل خط ائتمان بقيمة مليار دولار، وإن دمشق اقتربت من الاتفاق مع روسياوإيران بشأن الحصول على تمويلات جديدة. وأضاف ميالة: "نحن بانتظار دعم مادي من الدول الصديقة من إيرانوروسيا (...) وهناك مباحثات مع دول أخرى". وتابع: "عندما تدعم إيرانوروسيا الشعب السوري، إذا كان من خلال مساعدات مادية أو من خلال توريد مواد غذائية، هذا يوفر على خزينة الدولة شراء هذه المواد، ولكن كما قلنا نحن بصدد وضع الأحرف النهائية واللمسات الأخيرة على موضوع المساعدات المادية بشكل واضح". ورغم ذلك، يخاطر المصرف المركزي بسياسته الجديدة بشأن العملة، نظرا لأن أي انخفاض جديد في قيمة الليرة قد يؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم، الذي قدره محللون مستقلون بنحو 50% العام الماضي. وقال مصرفي كبير في دمشق: "يا لها من خطوة جريئة (...) إذا هوت الليرة فشلت سياسة ميالة، وإذا استقر سعر الصرف فسيعني ذلك نجاحه".