وجه طفولى، لكنه لا ينتمى لعالم الأطفال، تذهب ملامحه بعيداً فى عمق الألم والقسوة والضياع.. لا يكترث «هارون» غالبا بأى شىء، يطارد قدره، ولقمة عيشه، كما يطارد شمة «الكولة» تنسيه برودة أرصفة الشوارع، وقرصة الجوع فى جسد هزيل. يستقبلك بملامح جامدة، كأنها لم تنفرج لابتسامة من قبل، يقف مشدوداً بجسده النحيل وقامته التى لا تتجاوز المتر، هادئ بما لا يتلاءم مع شخص قضى بسجن الأحداث أكثر من نصف عمره.. نظرات عينيه حادة.. قاسية أحيانا، مدببة وجارحة أحيانا أخرى، رغم أنه لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره. إنه هارون عصام أو «هارون الطائر»، اسم الشهرة الذى استحقه عن جدارة لمهارته فى الهرب ومراوغة الشرطة.. الشارع هو منزله الأول إن لم يكن عالمه كله.. قضى فيه 4 سنوات فى دهاليز الأزقة وأغوار الحوارى وتحت الكبارى وفى كل مكان لا يؤوى إلا ما سار على أربع من «خلق الله»، وأمضى أوقاته إما سارقا أو متعاطيا للمخدرات أو بائعا لها، قبل أن يعمل تباعا على سيارات الأجرة خط روكسى - رمسيس. .. وأخيراً دخل سجن الأحداث 18 مرة فى قضايا عديدة هو لا يذكرها، لكنه يتذكر جيدا أنه ألقى القبض عليه قبل أيام بتهمة هتك عرض لطفل شوارع بمنطقة روكسى. لا يفضل «هارون» المراوغة وهو يتحدث عن حياته، يقتحمك مباشرة بتفاصيلها، لا يجد غضاضة فى سرد رحلاته فى الشوارع ولا هروبه من المدرسة وأيضا تلك المرة.. أول مرة يشم فيها «كولة» وأول خناقة له وتلك الإصابة الموجودة فى وجهه، وعن مقابلته للكابتن خالد عبدالعزيز يقصد «العميد خالد عبدالعزيز» مدير الإدارة العامة لمباحث الأحداث بالقاهرة لأكثر من 6 مرات خلال 5 أشهر فقط. يأخذك هارون إلى عالمه بلا مقدمات: اسمى هارون عصام عندى 14 سنة، مقيم فى منطقة مساكن عين شمس.. من أسرة فقيرة جدا نشأت فى شقة مكونة من أوضة فى الطابق الأرضى، كنا بنام فيها أنا وإخواتى، ووالدى يعمل عاملاً فى جراج.. عندى أخت وأخ أكبر منى.. وعشان دخل أبويا كان شحيح كانت ظروفنا كل مدى بتبوظ. «هربت من المدرسة»، بصراحة كان لازم أهرب، هاعمل إيه كل شوية كانت مدرسة العربى تضربنى عشان مبحلش الواجب.. هو أنا كنت هادور على حاجة آكلها ولا أحل الواجب.. المهم هربت ومرجعتش تانى سيبت المدرسة خالص.. أنا أصلا مش غاوى علام ولا مدارس.. أصل هتعلم وبعد ما أتعلم هاعمل إيه؟.. هما اللى اتعلموا أصلا خدوا إيه؟، قلت أريح دماغى وسيبت الدراسة وأنا فى تانية ابتدائى.. خلاص بقى مفيش مدرسة.. أنا بصراحة فكرت لقيت مفيش حل غير الشارع، هروح فين ولمين؟ أهلى من فقرهم مش عايزينى، اتعرفت على أحمد أوكا وصلاح ريشة فى المنطقة عندنا وبدأت أغيب عن البيت أيام كتير ومكنش حد بيسأل عنى. يتوقف ليتنهد ويسأل: «عايز سيجارة» يحذره أمين الشرطة: وبعدين. يبتلع هارون ريقه، وينطقها بسرعة وكأنه لا يريد لأمين الشرطة أن يسمعه: إيه يا عم أنا قلت هات عيل من عيالك.. يبتسم أمين الشرطة ولا يرد، فيهز هارون رأسه هازئا ويتابع: أنا بقالى 4 سنين فى الشارع دخلت الأحداث حوالى 18 مرة، وفى كل مرة والدتى لما كانت بتيجى تستلمنى كانت تسيبنى أول ما نخرج من الإدارة وتجرى تهرب منى. ويتذكر: «أنا فاكر أول مرة مشيت وسابتنى، أنا نمت فى الشارع شوية وبعدين دخلت مسجد فى روكسى، كنت هروح فين؟ وتانى يوم رحت بعت مناديل مع أحمد أوكا وبعدين رحنا ننام فى المسجد وهناك شفت عيال كتير أوى نايمين وكلهم بيشموا كولة.. أنا كنت تعبان ونمت من التعب فى اليوم ده وبقيت على الحال ده كتير، واشتغلت بقى أبيع مناديل وأمسح عربيات واشتغلت تبّاع وكنت باخد 10 جنيه فى اليوم أشترى أكل وبعدين كنت بشم كولة.. يبتسم هارون ويحكى عن أول مرة شم فيها كولة: كنت حاسس أن العمارات بتميل وتقع على الناس فى الشارع.. كنت شايفها بترقص حواليّه والناس بتكبر وتصغر زى العفاريت.. دخلت الأحداث كتير أوى وفى آخر مرة كانت من 5 أشهر، وكابتن خالد يقصد «العميد خالد عبدالعزيز» مدير الإدارة العامة لمباحث الأحداث بالقاهرة سلمنى لوالدتى وسابتنى أول ما خرجنا من مكتب العميد خالد على طول، رحت لصاحبى أحمد أوكا وصلاح ريشة فى موقف السيارات فى روكسى لحد ما لقيت نفسى هنا من أسبوع بتهمة هتك عرض طفل». يتوقف هارون عن الكلام ويشير إلى جرح فى وجهه ويقول: دى كانت أول خناقة ليّا، اللى حصل أن واحد اسمه مصطفى كابو اختلف معايا على سعر علبة كولة وضربنى ب«كعب كوباية» فى وشى وجرى.. بس أنا جبت أوكا وريشة وقلت لهم أنا ليّا تار ومش هسيبه.. انتم معايا، قالوا لى: لحد ما نروح النار، وعملنا كمين ومسكنا مصطفى، وخدناه فى خرابة، وقلت لهم سيبوه، وطلعت مطواة من جيبى وعلمت عليه ب10 غرز فى رقبته علشان مفيش حد يعلم علىّ، الشارع عايز كده ديوك بس، برابر لأ.