فى البدء كانت مصر هبة النيل، كما قال المؤرخ هيردوت، وباتت الآن قبلة الراغبين فى التمتع بسكن راقٍ داخل المحروسة. كل مسكن اقترب من النيل ارتفع ثمنه، واتجهت ناحيته الأعين، مبانٍ عالية الطول، بالغة فى الرقى، تندرج جغرافياً فى نطاق بولاق، ما بين فندق رمسيس هيلتون، صاحب الواجهة البنية الشهيرة المطل على ميدان التحرير والقابع أمام النيل من ناحية، ، وبين مثلث ماسبيرو من الناحيتين الأخريين. يجاور الفندق مبنى الإذاعة والتليفزيون، ماسبيرو، الذى دائماً ما يصنع الحدث، يقف رابضاً فى مكانه بشكله الهندسى الشهير، نصف دائرى، ينتصب من فوقه برج صغير الحجم، كبير الأطباق الدائرية الخاصة بالستالايت، التى تبث الإشارات لتحويل الأثير فى الفراغ لصورة حية داخل البيوت. من يتمشى قليلاً على النيل، يقابل بصره مبنى هائل الحجم، لا يصل بعينه إلى قمته، بياضه ناصع، وواجهته الزجاجية دائماً ما تكون نظيفة، يعود المبنى لوزارة الخارجية المصرية.. هذه هى الصورة من الأمام، تبدو فى أتم حالات البهاء، كورنيش مثالى الطلعة. «من بره هالله هالله ومن جوه يعلم الله»، هكذا يقول الحاج سيد حسين، الشهير بالحاج عربى، صاحب الخمسين عاماً، وأحد أهالى بولاق، كانت ورشة جد الحاج عربى قريبة من النيل، بالتحديد عند سور مبنى وزارة الخارجية الأبيض، لكنه منذ فترة، أخذت الحكومة مكان ورشته ليقام عليها مبنى الوزارة. يرى الحاج عربى أن أهالى مثلث ماسبيرو هم ملح أرض بولاق الحقيقيين، وليس أى مبانٍ أخرى، هم الذين ولدوا هنا قبل أن يأتى عليهم ماسبيرو أو الفندق أو الخارجية، أحاطت بهم المبانى الشاهقة، مشكلة حاجز راقٍ يلف منطقة عشوائية. يقول الحاج عربى إن أولادهم نما بداخلهم ما يشبه الحقد الطبقى، أن يخرج كل ليلة أحد الأبناء من مثلث ماسبيرو، حيث ترتع الحيوانات فى الشارع، ليصطدم على بعد خطوات منه، بمبانٍ لا يحلم الأبناء حتى بمجرد دخولها! ما يثير استياءه أن الحكومة لا تلقى بالاً لذلك، ولا تشغل بالها بأن تجدد بيوت المثلث وما اقترب منه من مناطق بولاق، التى بمثابة كيس ملح يحتوى على حبات من السكر، الملح بولاق، والسكر المبانى الراقية. يتذكر الحاج عربى العام ستين جيداً، ففى ذلك العام احتل مبنى ماسبيرو مكانه الحالى، وبات التليفزيون فى حضرتهم مبنى وليس مجرد صندوق تتحرك فيه المشاهد، يقول إن مبنى التليفزيون فى الأساس كان يعود لاستراحة تخص الملك، وإن هيلتون كان مخزناً للتروماى. «هما خنقوا بولاق بوجود الحاجات الراقية دى»، يشير الحاج عربى إلى أن بولاق أصبحت مختنقة، فورشة السيارات التى يمتلكها ويعمل سمكرياً لها، بات دخولها صعباً للزبائن، حيث باتت المنطقة محاطة بالعمارات والحراسات والأسلاك الشائكة.