فيما مضى كتبت «احلم. احلم. احلم». أجمل شىء بالوجود الإنسانى يتحول بالثكنات المتأخرة لفعل قاسٍ، لأقسى ممارسات تعذيب النفس، فى عرفنا: أن تحلم يعنى أن ترفع راية الحرب وتصارع بقية حياتك بمحاولات نضالية لتحمل مسئولية قرارك الأول: قرار الحلم. يومها أرسلت لى سيرين تسألنى: هل فعلاً يجب الاختيار بين السعادة التقليدية أو أن أكون سعيدة بقدرتى على تحقيق الأحلام.. هل هذا هو الواقع؟ وكنت كتبت بأن السعادة التقليدية أسهل، فلكى ترتاح احلم كالبقية، اتبع وصفة السعادة الدارجة، وانسَ أن تتجاوز حدود المرسوم والمنصوص عليه، كن كما النص لا كما تريد أن تكون. لنسأل الحالمين السابقين الذين تقاعسوا واتبعوا وصفة السعادة العربية الوهمية فقمعوا الذات: هل أنتم حقاً سعداء؟ أعرف كثيرين «كانت» لهم أحلام، لكن منطقيتهم فرضت عليهم الانضمام للقطيع والالتصاق أكثر فأكثر بالعجين، داخل العجينة المجتمعية الكبرى تمحى الشخصية مثلما يمحى الفكر الفردى، وتصبح الحياة مجرد حركات روتينية مكررة، أما الأحلام فليست أكثر من منام ليلى مزعج، تستيقظ فجراً فزعاً من حلم يتبعك من سنين، تتذكر أنك كما النص لا كما تريد أن تكون، تستعذ من الشيطان وتمارس فوراً طقسك اليومى قبل أن يغالبك جنونك القديم، تنغمس بالعجين الكبير كل صباح كيلا تسرح ولا تنسى أنك مسير ولست مخيرا. فى البدايات يظهر أمامك سؤال أحمق كبير: معقول أنى الوحيد الصح والبقية كلها خطأ؟ سيرين ما زالت فى البدايات، فهل نقدم لها النصح، أم نترك بداياتها تشكل كما يراها الكون لا كما يراها المجموع، هل أقول لها التصقى بالعجين، وكونى أحد مكونات الجهل، أو اسرحى واحلمى وتألمى واستمتعى بآلام الإنجاز؟ ذات مرة تساءل ميلان كونديرا: هل السعادة هى فى الدوائر والتكرار أم فى الخط المستقيم؟ الخط المستقيم يعنى أن تسير قدماً للأمام دون الالتفاف ودون تكرار الأشياء، الخط المستقيم يعنى أنك بحالة جديدة كل يوم. فإذا كنا ندور وندور ونتكرر لسنين طويلة فهل تتحقق سعادتنا؟ ألهذا يعيش الكلب بحالة أبدية من السعادة، لأنه يمارس نفس الألعاب اليومية، يلاحق صاحبه بنفس الطريق لا يمل؟ لكننا بشر ومنحنا هبة الملل، كى نسأم من الأشياء ونعلن حاجتنا المتواصلة للتغيير، هذه الحاجة هى المولد الأول للإبداع، الملل برأيى يخلق الحضارة وإن لم تكن موجودة، خاصة هنا حيث ماتت كل حضارة مرت من هنا. كله لن يتم حتى تسرحى يا سيرين وتحلمى ويصيبك الملل. أمامك خياران؛ أحدهما حياة الدوائر والتكرار بلا كلل مثل كارنينا كلبة تيريزا برواية كونديرا، والآخر طريق مستقيم يسأم من الدوران والروتين، لكى تنجو فيه عليك أن تحلم، فتبدع وتخلق أشكالاً جديدة وتكمل المشوار. هل يعقل أنك الوحيد الصح والبقية كلها خطأ؟ نعم لا تخف فكلهم مخطئون، انظر من هذه الزاوية: لو كان المكان يعج بالفوضى والفساد وانعدام العدالة وتردى الفكر والأدب والفن والعلوم والأبحاث، وبحكم العالم أجمع لم يصل مجتمعك للطور الأول من النمو بعد فهل ستعيد سؤالك الأحمق، أم ستسارع لإنقاذ بلدك؟ لا تعتبر ثورتك بوجه السلطة معجزة، فالإنجاز الأصعب هو ثورتك أمام مجتمع تبلد وانتفت منه صفة الملل. أما الفرح الحيوانى «أساس تأخر أى فرد» ففى رؤية الدنيا من منظار صغير ضيق العدسة، الكون وفقها لن يتجاوز المكتب الذى تجلس عليه وأحلامك لن تتجاوز زواج وأطفال وأين أقضى صيف العام، لكن الموجودين الحقيقيين على الأرض هم من تتمدد مناظيرهم مع الكون الممتد، الأرض بالنسبة لهم صغيرة، وأسرار الكون عظيمة ومطلبهم حلها كلها، لذا فالإنسانية تحتم علينا الملل والخلق والشقاء، ليس كلامى وحدى بل هو من الوحى الإلهى أيضاً. «لقد خلقنا الإنسان فى كبد»، لكنه شقاء ممتع متعته بشعور يراودك كلما حققت شيئاً يثبت أنك حر وأن وجودك يترتب عليه أثر، ماذا يستفيد الكون من تكرارك لفعل يمارسه بقية الهالكين بالعجين، يمارسونه بنفس واحد وفكر واحد؟ ماذا يستفيد الوطن من بقائك داخل الدوائر؟ اخدم الكون، اخرج واسلك خطاً مستقيماً ولا تنسَ أن تبعث لى بآرائك الأولية.