هل تذكرون كتاب «ت. س. إليوت» الشهير «ملاحظات نحو تعريف الثقافة»، الذى ترجمه «الأستاذ/الصديق» شكرى عياد، الذى لا يقل شهرة وأهمية عن العديد من أعماله الأخرى، مثل «الأرض اليباب» وغيره؟ دعونا نتذكر معاً بعض ماجاء به، حيث يؤكد بتواضع متعمد أنه لا يستهدف تقديم نظرية أو تعريفاً جامعاً مانعاً للثقافة، رغم أنه طرح صيغة شاعت حتى يومنا الحالى «الثقافة طريقة أو أسلوب حياة». وهو، كما يرى النقاد، يتجنب إعطاء أى أهمية للقوى والعوامل الثقافية، مفضلاً الحديث عن «الشروط الثابتة» لقيام ثقافة راقية. ويركز فى هذا الشأن على التفاعل بين الطبقات الاجتماعية والدين والنخب. ويستفيض فى شرح الوحدة الإنسانية والتعدد فى الأنماط الثقافية، التى يرى وجوب دورانها مع الثقافات الأخرى بانفتاح يثريها ولا يفقدها تمايزها. كما يشير إلى أهمية الجوانب غير الواعية والمتوارثة، التى تصب فى هذا التمايز. ومع هذا الطرح المتوازن، الذى يرى النقاد فيه إضاءات معرفية أكثر من كونها أكاديمية، يورد رأياً قد يكون خلافياً عند البعض عن المرحلة الاستعمارية، حيث يرى أن نخب الشعوب التى عانت من الاستعمار لا ترفض التقدم الحضارى لمن استعمروهم، وهو أمر منطقى لا يجافى الواقع، ويحسب لهذه النخب لا عليها، إذا كان من منطلق الانفتاح الذى يدعو إليه، لا التبعية التى يقع البعض فى فخاخها العديدة، بإهمال تعدد سياقات جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية عموماً، والتى تتفق معه على أن «الثقافة» هى طريقة أو طرائق العيش فى دروبها. وإذ نكتفى بالعجالة السابقة بالنسبة لكتاب إليوت، نود أن نناقش ما تشهده ثقافتنا من تشوهات تخل بالشروط الثابتة لإمكانية ارتقائها، حيث نجمعها تحت عنوان موازٍ لعنوان الكتاب: ملاحظات نحو تعريف «السخافة» وإن كانت تستحق وصفاً أكثر حدة ورفضاً. سنحاول فيما يلى أن نرصد بإيجاز التشوهات التالية: - لا بأس من أن نبدأ «بالإضاءة المعرفية» لإليوت، الخاصة بالعلاقة بين الطبقات الاجتماعية والنخب والدين، لنلحظ مدى تشوهها. لا شك أن تراكم التشوهات قد يستدعى تحليلاً تاريخياً متعمقاً، لكننا دون أى منطلقات أيديولوجية يمكن أن نتوقف أمام سبعينات القرن الماضى وما تلاها، كعلاقة فارقة فى هذا الصدد. لم يكن من الممكن ألا تتأثر الثقافة بالتخلى عن «الشروط الثابتة» لثقافة مرحلة الخمسينات والستينات بما لها وما عليها التى استفادت كثيراً من رموز التنوير فى المرحلة التى سبقتها. كان نصر أكتوبر العزيز، الذى ندين له جميعاً، استثناء. ولكن، ماذا عن الطريقة التى تم بها ما سمى بالانفتاح، وماذا عن القطط السمان وزواج نخبة المال بالسلطة؟ والعصف بإرهاصات العدالة الاجتماعية وتآكل الطبقة المتوسطة؟ وكارثة مغازلة الإسلام السياسى، لضرب اليسار؟ وما دامت جماعة المثقفين قد اعتبرت بؤراً وأفنديات، فقد اغترب الكثير منهم، وبدأت مسيرة الفن الهابط «الظافرة». نجحت هذه التشوهات فى تغييب أى تصور للمشروع «الوطنى/ القومى»، ودفعت عربة الثقافة إلى أسفل، وهو الأمر الذى لم يحدث بعد هزيمة يونيو المفجعة، التى تماسكنا بعدها، مع عدم إنكار آثارها، خاضت الثقافة المعركة، وأعدنا بناء الجيش، وخضنا حرب الاستنزاف، ووضعت خطة العبور، الذى لم نشهد بعد نجاحه إلا النكوص، الذى عانت منه الثقافة بوجه خاص، التى نذكّر بكونها «طريقة حياة». - بعد استعراضنا لهذا التشوه العام، نرى أن أغلب أشكال التشوهات الأخرى تتعلق، بصورة أو بأخرى، بالنخب الفكرية بالذات، التى برزت بعد هذا الهول، وجعلت من مصر «جنة المديوكر» كما فصلت فى مقال سابق. أغلب هذه «النخب»، التى لا تدرى من نخبها على حد قول عمنا حامد عمار، تمارس «التفكير خارج السياق»، ودعك من حكاية «التفكير خارج الصندوق»، التى لا يدرك أغلب من يقولونها أصلها، ولا يدركون أصلاً ماذا فى هذا الصندوق. لا ينكر أحد تميز العديد من مثقفينا، رغم ظاهرة المديوكر السلبية، لكن أدواتهم ومرجعياتهم المستوردة بطريقة تسليم مفتاح العقل فشلت فى تواصل مسيرة التنوير بتوصيلها هى ومفاهيمها إلى المجتمع، بسبب تشوه علاقتهم بالسياق والموروث، وعدم إدانتهم للتدهور الثقافى بشكل كافٍ. والغريب أن الأمر لا يتعلق «بالنخبة الحديثة» فقط، لو صحت التسمية، لكن يشمل نخبة الفكر الدينى، التى تنفصل بماضويتها ومحافظتها الشديدة، بما يمنعها من التجديد أو الإتيان بأى جديد، وتعطى مساحة للتطرف المؤدى إلى العنف والإرهاب، وللخلط المعيب بين الدين والسياسة، ومعاداة حرية التفكير والتعبير والإبداع. ويجىء الرد من «أراجوزات الثقافة» بتقديم الأفكار المارقة، ويجدون من يدافع عنهم باسم الحق فى ممارسه تفكير وتعبير وإبداع لا قيمة ولا وجود لها، إذا ما تم نقدها موضوعياً بعيداً عن قضايا الحسبة التى نرفضها. إن الدين لا يمكن إخراجه من المعادلة، وإن حاول البعض ذلك. لكن المشتغلين بأموره على مختلف مستوياتهم لا يمكن أن يكونوا أوصياء على تفكير غيرهم. - فى ظل ما سبق، نمت وترعرعت آفة «التفكير التربصى» القائم على الاستقطاب والنقص، كبديل عن «التفكير الحوارى» القائم على الاستيعاب والنقد. ولذلك، اكتظت وسائل الإعلام بالتعالم بدون علم، وتحولت وسائل التواصل الاجتماعى إلى أدوات للتنابز المجتمعى، وتاهت مفاهيم التعددية وحق الاختلاف واحترام الآخر، إلى آخر هذه الحزمة من «المفاهيم العقلانية المفتقدة». - إن الانفتاح على إضاءات إليوت المعرفية، منطلقين من سياقنا كما دعانا، يجعلنا مقتنعين بأن التشوهات «السخيفة» السابقة، التى لحقت بالعلاقات المتجمعية والعلاقة بالسياق والموروث والمشهد الثقافى المتدهور، أخلت «بالشروط الثابتة» للارتقاء الثقافى. وأى مشروع يستهدف «النهضة الثقافية» تتصدى له نخبة مخلصة من «مثقفينا العضويين»، يجب أن يعالج هذه التشوهات بصراحه ووضوح.