لا، لن تستطيع أن تقرأ تلك الكلمات إلا إذا ارتديت تلك النظارة. اخلع نظارتك ذات الزجاج والعدسات السميكة وارتدِ نظارتى، فهى فقط التى ستجعلك ترى أشياء لم ترها من قبلُ. كم تعذبت يا صديقى برؤية الواقع والآن أعطيك فرصة مجانية وذهبية لأن ترى الخيال وتتلمس الواقع بأناملك الذهبية. فهل أنت مستعد لخوض تلك التجربة؟ إذا ارتديت نظارتى فهيا بنا، وإذا لم ترتدِها فهنا توقف عن القراءة حتى لا تفقد أعز ما تملك، عقلك.. وقد أنذرتك. الحصان الأبيض المجنح يصعد بنا للسماء، وقد تساقطت من خلفنا كرات الثلج الأبيض التى تتوهج فى عيون الشمس، ها هو الموكب يأتى بعيون حمراء، والصور الملونة والشرائط المذهبة تتدلى على أعناق الشجر ذات اللون الوردى. والرجل يسير والثوب به دماء يحاول أن يزيل آثارها دون فائدة، وقد صار التراب رماداً بفعل الحرائق، والصبيان والمهرجون يتعلقون بثياب الرجل، كل منهم يلعق بلسانه الرداء المخملى، والمنادى ينادى: «يا أهل المدينة.. استيقظوا لقد جاء»، وسنابك الخيل تدق الأرض، والقمر يوشك على النعاس. أغلق أصحاب المتاجر الدكاكين، وعلى قمم الجبال ما زالت الطيور العذراء تغنى أغنية ذات لحن قديم يولد من جديد بلا موعد سابق، والرجل يهذى بكلمات غير مفهومة ويرتدى حذاء غريب الشكل يغوص به فى الأرض، وتخرج رائحة غريبة تتصاعد، ويبحث أهل المدينة عن مكان يختبئون فيه فلا يجدون إلا النهر الذى ينساب فى جنبات الوادى. ها هو الرجل أتى مشقوق اللسان ليبحث فى خفايا العصر عن عرش السلطان والكل خائف ويترقب، ومن هذا؟ رجل آخر محمل بالبخور ورائحة الماضى العتيق يتلفت يميناً ويساراً، وقد تدلت من صدره سبح متعددة الأشكال والألوان، ويتصاعد البخور من لحيته، ويغطى وجهه فلا تكاد ترى ملامحه جيداً. هو ضبابى الشكل ملابسه رثة وممزقة. مجذوب فى عالم عقلاء أهل المدينة خرجوا من النهر، تساقطت قطرات الماء حبات من اللؤلؤ المنثور على الأرض الحجرية. المجذوب لا يروق لهم، تلقى الحجارة وتُصب اللعنات على الوافد الجديد لمدينة الأشباح، من يملك لحظة يبيعها فى سوق النخاسة؟ من لديه الشجاعة لكى يلقى بنفسه أمام الوافد الجديد لكى يعبر على جسده إلى النهاية؟ يد طويلة ممتدة تعصر رؤوس أحد السكان، صوت تكسير العظام يصم الآذان، والسكان يضحكون ويتهامسون، والمجذوب تتعثر خطواته وعيناه تتدليان كأغصان الأشجار السامقة فى الوادى البعيد. ما يريده غير معقول. يريد الآن عرش السلطان. عرش السلطان لا عنوان له. فقد عنوانه منذ فترة طويلة وهو يبحث عنه فى كل مكان قد يجده وقد لا يجده. سفن الماضى تمخر عباب البحر محملة بالقراصنة الأشداء ذوى الوجوه الحمراء والشوارب الكثيفة تقترب من شاطئ الذهب. والمدينة تتدلى بها الشرائط المذهبة والكلمات المحمولة على الأعناق وضحكات الصغار البريئة والعيون تنظر ناحية النهر؛ حيث يلتقى الرجلان؛ فمن سيبتسم ابتسامة النصر؟ ويبدو العالم صغيراً، والسلطان ما زال قابعا فى لؤلؤة البحر العجوز يتطلع مشدوها من خلف نظارة ذات عدسات سميكة للسحابة البيضاء التى ما زالت ترقص فى السماء الزرقاء وترفض أن تنزل مرة أخرى للأرض؛ حيث يوجد عالم يحمله حصان أبيض مجنح يركض فى عيونك وعيونى ليعود لعيون الشمس ذات يوم. انتهت الرحلة.. اخلع نظارتك الآن لترى الحقيقة، فهل ترى جيداً؟ لا أظن. إذن ارتدِ نظارتى، نظارة ابن الستين وهيا بنا بالحصان الأبيض المجنح نحلق فى سماء الخيال ونتلمس الواقع بأطرافنا الذهبية.