فَتَّشْتُ ودَعْبَسْتُ كثيراً، لكنى لم أقرأ أبداً أخباراً تَشْرَح وجدانى.. أقلب شمال أقلب يمين ولا فائدة.. كل السبل تخطفك رغماً عنك وعن الذين أنجبوك (أشيك قليلاً من اللى خلفوك) إلى ميادين القلق وشوارع التوتر وحارات العكننة. لم أفقد الأمل، حرصاً على الوفاء بالعهد، حاملاً لواء دعوة فك التكشيرة، وشعرت أن الصدفة تأتى لمن يستحقها، عندما باغتنى خبر السائح الإنجليزى الذى صفع شرطياً مصرياً بالأقصر، وتصورت للوهلة الأولى أن الشرطى هو المخطئ، من واقع تراكمات تاريخية غير مريحة تجاه داخليتنا حماها الله، إلى أن تكشفت الحقائق.. تبين أن الزبون الإنجليزى هو المخطئ والمذنب.. أما السبب فكان طريفاً إلى حد كبير.. وفقاً لتحقيقات النيابة، توجه السائح إلى الشرطى وظل يحدثه، كان الشرطى ينصت إليه بأدب شديد، ثم يبتسم ويومئ برأسه تعبيراً عن الامتنان بما معناه: دا أقل واجب يا خواجة، وأنت شرفت مصر ونورتها، ويا ريت ماتكونش آخر مرة وخلينا نشوفك.. كل ذلك بالإيماءات دون أن ينبس ببنت شفة، وفجأة هوى الخواجة الإنجليزى بكفه على وجه الشرطى على مرأى ومسمع من الناس، وتبين أنه كان يشكو له تعرضه لمضايقات بعض الصبية ويطلب منه القبض عليهم، ثم اكتشف أنه بَجَم لا يعرف الإنجليزية، فصفعه على وجهه. على أى حال، قامت النيابة بالواجب القانونى وجابت حق العسكرى.. غير أن الواقعة أهاجت الذكريات والشىء بالشىء يذكر. تذكرت واقعة مماثلة فى تفاصيلها إلى حد كبير، مع فارق طفيف فى رد فعل السائح، ومخزون «الصياعة» لدى المصرى اللبط.. استقل سائح إنجليزى سيارة تاكسى، وللتغلب على ملل الطريق ظل يُحَدِّث السائق بالإنجليزية طبعاً دون أن يرد الأخير لا بالكلام ولا بالإيماءات، فشك السائح أن السائق لا يعرف الإنجليزية، وكان شكاً فى محله بعدما سأله هل تتحدث الإنجليزية؟ ويبدو أن السائق كان على علم بالسؤال من تكراره ومن تكرار إجابته الجاهزة، فقال له: «نو».. جاء الرد مباغتاً لسائح يرى ضرورة دراية السائقين بلغات السياح لخدمة صناعة السياحة، فكان رد فعله أن تطلع إلى السائق وغسله بنظرات الامتعاض الشديد، «من فوق لتحت ومن تحت لفوق»، على رأى شكوكو، استنكاراً لجهله بالإنجليزية. اغتاظ السائق لشعوره بالمهانة الشديدة.. لكن انظر كيف كان رد فعله «الصايع» بشياكة وذوق وذكاء.. سادت فترة صمت بين الاثنين، إلى أن قطعها السائق بمباغتة السائح بنفس السؤال باللغة الإنجليزية: «دو يو سبيك عربى؟»! قال السائح: «نو»، وهنا رد إليه السائق نفس نظرات الامتعاض الشديد «من فوق لتحت ومن تحت لفوق». موقف السائق المغاير لموقف العسكرى، يؤكد أن إحنا اللى دهنَّا الهوا دوكو، وركِّبنا الفيل حنطور، وخرمنا الربع جنيه، ولَبِّسنا المعزة مايوه.. فراعنة صيَّع. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فالحق أيضاً لا بد أن يقال.. إذا كان ما سبق على سبيل الدفاع عن كرامة المصرى التى هى أعز وأغلى ما نملكه (هى اللى حيلتنا)، فإن الأمانة تقتضى استحضار مشهد آخر مرفوض، ولا يستقيم مع الدعوة المعلنة لدخول القادم إلى أحضاننا بكل الود والأمان.. المشهد لم يمر عليه وقت طويل، وشاءت الصدفة أن أكون حاضراً متابعاً لتفاصيله، وخرجت منه بالقول: «لا يعقل أن يكون أول ما يصادف الزائر الأجنبى بمطار القاهرة الدولى لافتة (ادخلوها بسلام آمنين)، وبمجرد عبوره بوابة المطار يجد نفسه طرفاً فى معركة طَحْن بالكواريك بين سائقى الأجرة على خلفية الصراع حول أسبقية التحميل».. هذا والله ما حدث بالفعل، وكان النزاع حول الاستحواذ على سائح أجنبى بمفرده، ثم فوجئ بالشجار العنيف من حوله، فظل طوال الوقت يحاول الفصل بين المتشاجرين، وبالطبع «نابه من الحب كُورِيكاً كاد أن يَحِشَّ وسطه»! أطيب الأمانى للسياحة باسترداد عافيتها بسرعة.. بكل ما فيها من صناعة، وصياعة، وشياكة، وكواريك.. ودولارات.