عندما بدأتُ تعلُّم البرمجة، بدافِعٍ من أستاذي المشرف على رسالة الماجستير الخاصة بي في اللسانيات الحاسوبية (Computational Linguistics)، لَفَتَ نظري كثيرًا مصطلح (algorithm)، وهو المصطلح الذي يعني الخطوات المنطقية في معالجة مشكلة برمجية معقَّدة (فأيُّ برنامج هو خوارزم إلا إذا كان يَتَوَقَّفُ في نهاية المطاف).. وضربني الفخر في مَقْتَل حين عَرَفْتُ أن هذا المصطلح هو اشتقاق من اسم عالم الرياضيات الأكبر في كل العصور (الخوارزمي)، وأنه بنفسه قد ابتكر هذا النمط من التفكير العلمي.هو مبتَكِر مفهوم الصفر (اللاشيء)، ووضع له الرمز الذي ما زال يُستخدم في الثقافة العالمية حتى الآن (0).. بل هو واضع الأرقام العربية (التي نستخدم بدلًا منها الأرقام الهندية في ضياع كامل للهُوِيَّة)، حيث بناها على مفهوم رياضي بسيط وعميق؛ فكل رقم من الأرقام يُعَبِّر عن عدد الزوايا الحادة أو القائمة به؛ فالرقم (1) به زاوية أفقية واحدة من الأعلى بعكس (3) الذي يحوي ثلاث زوايا حادة، فيكون الصفر تدشينًا عبقريًّا لفكرة (اللاشيء)، واختار له بالتالي رمز الدائرة، التي تنعدم فيها الزوايا الحادّة، والتي تعني بالتالي (اللاشيء). من هو؟ هو أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي، وُلِد في خوارزم (أوزبكستان)، وانتقل إلى العراق، سمع به الخليفة هارون الرشيد، فطلب استقدامه.. وجده شابًّا صغير السنّ حادّ الذكاء، ذهل من طلاقته ومنطقه وربطه الأمور بمنطقية مبهرة، فقرَّبه منه. صار أمينًا في خلافة المأمون على مكتبة قصر الخلافة، في هذه الفترة وقبل التحاقه بدار الحكمة (حين كان العرب يعرفون العلم حقًّا) التي أسسها المأمون بعد وفاة أبيه هارون الرشيد (كانت أم المأمون فارسية، وقد قضى على أخيه الأمين الذي كانت أمه عربية، فهو بذلك يمثل الفرع الفارسي للخلافة)، تزوّج الخوارزمي، وأنجب ابنيه جعفر وعبد الله، اللذين تكنّى بهما؛ فهو أبو جعفر، وأبو عبد الله.في دار الحكمة وبين عامي 813 و833 بزغ نجمه، وعلا كعبه؛ تناول أعمال العالم الإغريقي بطليموس متتبعها بالتصحيح والشرح، والتعديل، وأشرف - وهو عالم الرياضيات – على 70 عالمَ جغرافيا منجزًا خريطة الأرض كاملة، معلنًا عن كتابه «صورة الأرض»، الذي ما زال مخطوطه موجودًا في ستراسبورغ بفرنسا. الخوارزمي والغرب؟! تُرجِمَتْ أعماله إلى اللاتينية كاملة!! فقادت الأبحاث الأوروبية نحو الحضارة الحالية. يقول المؤرِّخ والفيلسوف سارتون: «وإذا أخذنا جميع الحالات بعَيْن الاعتبار فإن الخَوارَزمي أحد أعظم الرِّياضيِّين في كل العصور».في كتابهما (الأعداد الهندية والعربية)، قال د. ديفيد بوجين ولويس كاربنسكي: (الخوارزمي هو الأستاذ الكبير في عصر بغداد الذهبي. إن لهذا الرجل معرفة كبيرة، ويدين له العالم بمعرفتنا الحالية لعلمي الجبر والحساب). كان د. أي وايدمان يكثر من القول: (إن أعمال الخَوَارَزْمي تتميَّز بالأصالة والأهميَّة العُظْمى وفيها تظهر عَبْقريَّته).يرجع الفضل له في تسمية علم (الجبر) Algebra، وهو المصطلح الذي ما زال يردده العلماء في جميع أنحاء الأرض، وبه يُعرف هذا العلم، وقد اشتقه الخوارزمي من «جَبْر الكسر»، أي «ترميمه»، فبه يُرمم كسر الأعداد، وكذلك اشتقاق اسم (لوغاريتم) Logarithm، و(صفر) Zero، واشتقه من «عاد صِفْرَ اليدين» أي «عاد دونَ تحقيقِ شيءٍ»، تحولت الفاء إلى واو (حرفان شفهيان يتبادلان المواقع مثل مروة التي تحولت إلى مرفت في نقل الاسم إلى اللغة التركية)، ووضع الغرب اللاحقة (o) في نهاية الكلمة فصارت كلمة «صفر».. «صورو»، التي تحولت إلى «زيرو». ماذا فعل؟! لقد ترك الخوارزمي عددًا من المؤلفات، أهمها: «الزيج الأول»، و«الزيج الثاني» المعروف ب«السند هند» (الزيج مصطلح رياضي ما زال يسمى بهذا الاسم الذي اخترعه له الخوارزمي)، وكتاب «الرخامة»، وكتاب «العمل بالإسطرلاب»، وكتاب «الجبر والمقابلة» الذي حوى أسرار الرياضيات، ومهَّد لصياغتها في معادلات رشيقة؛ فمن توزيع الإرث وحتى قياس مساحات الأراضي، صاغ جميع القوانين الناظمة لحركة الأعداد والمجموعات في هذا السفر القيِّم.لقد كان الخوارزمي من العقل بحيث فصل مفهوم الهندسة عن الجبر، ونصَّب الجبر فرعًا مستقلًّا، انظر إلى تواضعه في مقدمة كتابه الجبر والمقابلة، حيث كتب: (ألَّفْتُ من كتاب الجبر والمقابلة كتابا مُخْتَصَرا، حاصرا لِلَطِيفِ الحساب وجليله، لِمَا يَلْزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم، وفي مُقاسماتهم وأحكامهم وتجاراتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأراضي وكَرْي الأنهار والهندسة، وغير ذلك من وجوهه وفنونه، مُقدِّما لحُسْن النية فيه، راجيا لأن يُنْزِله أهل الأدب بفضل ما استودعوا من نِعَم الله تبارك وتعالى وجليل آلائه وجميل بلائه عندهم منزلتَه، وبالله توفيقي في هذا وغيره، عليه توكَّلْتُ وهو رب العَرْش العظيم).بخلاف تأليف الكتب، قدَّم الخوارزمي معرفة علميَّة منضبطة، تتمثل في الآتي:- ابتكار علم «اللوغاريتمات».- البرهنة على صحّة نظرية «فيثارغوث» عن المثلث القائم الزاوية.- قام بأعمال تطبيقية تتناول مساحة بعض السطوح، ومساحة الدائرة، ومساحة قطعة الدائرة، وقد عين لذلك قيمة 22/ 7، وهي القيمة التي يعرفها العلم الحديث بالضبط، وتوصل أيضًا إلى حساب بعض الأجسام، كالهرم الثلاثي، والهرم الرباعي والمخروط.- اكتشاف الطرق الخاصة بتحديد مساحات الأشكال والسطوح الهندسية كالدائرة والقطع الدائري والأشكال المستقيمة الأضلاع.- ابتكار علم الجبر وتأسيسه، ووضع مصطلحاته وفنونه.- وضع الحلول العلمية لتوزيع أنصبة المواريث حسب الشريعة الإسلامية.- حل جميع المعادلات الجبرية المعروفة من الدرجة الثانية، باستخراج جذورها الموجبة.- هو من أطلق تسمية «الأعداد الصمَّاء» على بعض الأعداد، وقد ترجم هذا المصطلح حرفيًّا إلى جميع لغات العالم، وهي الأعداد التي ليس لها جذر تربيعي صحيح.- أول من وضع مصطلحات لمعادلات من الدرجة الأولى والدرجة الثانية وأوجد حلولًا لها.- هو أول من أبدل علامة الحد (- أو ) عند نقلها من أحد جانبي المعادلة إلى الجانب الآخر، وأوجد طريقة الضرب، وشرح عملية ضرب الأقواس وتوصَّل إلى معرفة حاصل ضرب علامات الجمع والطرح (- ´ = -)، (- ´ - = )، ( ´ = ). وفاته كانت على أرجح الأقوال عام 847 عن سبعين عامًا عاشها في محراب العلم وبين ظهرانيه، توفي مخلصًا للعلم، فذاعَ بين العالمين ذِكْرُه!رحم الله من كانوا على شاكلته، غير عابئين بمشكلات الدنيا، ولا ضبابيات المشاهد.. رحم الله من يخلصون للعلم ويترفعون عن الصراعات، لا ينتظرون مكافأة من أحد، ولا يسعون إلى إرضاء أحد، لأنهم في وجهتهم إلى المعالي، لا يرون أي أحد!(ماشي)؟!