خطر لى مؤخراً أن أكتب مقالاً بعنوان: «ليه تشتم عبدالناصر.. لما ممكن تكره مرسى!»، لكننى تراجعت واستغفرت وصُمت عن الكتابة ثلاثة أسابيع. وكنت كتبت من قبل مقالاً بعنوان: «محمد مرسى مبارك»، خلاصته أن المصريين اكتشفوا -بعد بضعة أشهر من حكم مرسى- أن الفرق بينه وبين «مبارك» مجرد لحية ومرجعية، ثم تبين لهم أن «مرسى» تجاوز كل أخطاء «مبارك» طوال سنوات حكمه التى تقترب من الثلاثين عاماً، حتى إن هناك من بدأ يترحم على أيامه، ولم يكن مضى على إعلان تنحيه سوى عامين هما عمر «ثورة الخراب» التى وضعت مصر كما ترى على حافة هاوية. الآن.. يبدو لى أن وضع مبارك ومرسى فى جملة واحدة.. إهانة بالغة ل«مبارك»، بقدر ما يعد شرفاً لا يستحقه «مرسى»، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق ب«عبدالناصر»؟. إن هذا لا ينطوى فقط على إهانة، بل يعد خطيئة -لن أغفرها لنفسى- فى حق الرجل الذى عشت طفولتى وصباى فى كنفه السياسى والاجتماعى والاقتصادى.. الرجل الذى ربانى صغيراً وعلمنى كيف أقرأ وأكتب وأحلم وأفكر وأغنى وأزهو بمصريتى.. الرجل الذى أقشعر لصوته، ولا أنام قريراً إلا ورأسى مسنود على كتفيه اللتين تسدان الأفق، وأرى فى عينيه الثاقبتين أول الكبرياء وآخر الشجن: عبدالناصر ومرسى فى جملة واحدة؟!... أعوذ بالله. ما الذى يجعلنى أتذكر «عبدالناصر» إذن وأنا أشاهد هذا «المخلوق الرئاسى» ، محمد مرسى؟. ليست المقارنة بالطبع، فالفرق بين الاثنين كالفرق بين قرص الشمس وهو يشق السماء من شروق «يا فتاح يا عليم» إلى غروب «دهبت خوص النخيل يا نيل».. وقرص البتاو اليابس، الطالع فجأة من رماد الكهوف وعتمة الزنازين إلى موائد الحكم. السبب الأهم الذى يجعلنى أتذكر «عبدالناصر» هو الإحساس المروع بأن مصر صغرت وهانت وضاقت واستحكمت حلقاتها، وأظن أنها لن تُفرج -وهذا رأى غالبية المصريين الآن- إلا ب«الجيش»... الجيش الذى تشكلت عقيدته القتالية وتبلور ولاؤه السياسى والاجتماعى وأعيد إنتاج هيبته العسكرية بفضل جمال عبدالناصر وثورته وضباطه الأحرار.. الجيش الذى اخترع لمصر «شعباً» جديداً و«وطناً» جديداً و«غناءً» جديداً تتساوى فيه الرءوس وتتوحد الولاءات، ويأكل الجميع فيه من طبق واحد.. الجيش الذى تجاسر عليه «خرتية» ثورة خراب مصر وهتفوا بسقوط حكمه، ويسعى مرسى ومرشده وشاطره الآن إلى «أخونته»، وتحويله إلى ميليشيا لحساب جماعتهم الفاشية. ثمة سبب آخر يجعلنى أتذكر «عبدالناصر» وقد أصبح للإخوان «رئيس» يهدد الناس بإصبعه، ثم لا يلبث أن يخلو إلى نفسه -التى هى «مرشده»- ويضع هذا الإصبع فى فمه ليتقيأ قرارات وقوانين وإعلانات دستورية. «عبدالناصر» هو الوحيد الذى كسر شوكة الإخوان وقمع شهوتهم الجهنمية إلى الحكم ووضعهم فى حجمهم الحقيقى: «زنزانة السجن». السجن هو المكان الطبيعى للإخوان. هو مسقط رأسهم ومجالهم المغناطيسى والمخدع الذى تناسلوا فيه جيلاً وراء جيل. ولست مع الرأى القائل بأنهم «فصيل سياسى»، وأن من حقهم أن يحكموا إعمالاً للديمقراطية. فهم ليسوا فصيلاً سياسياً.. بل «جماعة ماسونية» غامضة، فاشية وانتهازية ومراوغة، لا تعمل ولا يزدهر عملها إلا فى أجواء من الفوضى والخراب والفتنة والتشرذم والكفر ب«الأنا» وتكفير «الآخر»، وهم أول من انقلب على الديمقراطية فور وصولهم إلى الحكم، ناهيك عن أنهم وصلوا إليه أصلاً بالزيت والسكر و«فزاعة النصارى»، ودغدغة مشاعر السذج والجهلاء ب«الجنة التى يوعدون». تبقى بعد ذلك ملاحظتان؛ الأولى أن الخط البيانى ل«رئيس مصر» طوال ستين عاماً ظل يهبط وينحدر حتى وصل إلى ما نحن فيه الآن، وكأن ثمة قانوناً يحتم أن يكون كل «خلف» أسوأ من «سلفه»، بصرف النظر عن التقييم النهائى لكل رئيس. والملاحظة الثانية أن لكل رئيس «واعظ» على مقاسه. «عبدالناصر» كان لديه «هيكل»، و«السادات» كان لديه موسى صبرى وأنيس منصور، ثم إبراهيم سعدة، و«مبارك» كان لديه إبراهيم نافع وسمير رجب، ولحق بهما أسامة سرايا وعبدالله كمال. أما ذلك «المخلوق الرئاسى» «محمد مرسى» فقد اكتشف ضالته فى «مخلوق إعلامى» متحول هو المستشار (الرئاسى برضه) عمرو الليثى، وقد بدا الاثنان فى حوارهما الأخير أشبه ب«جوز كناريا»: «سو سو يا فخامة الرئيس؟.. لأ.. سو سو يا عمورتى». السؤال الأهم: ألا تلاحظ أن الوحيد الذى لم يفقد هيبته من كل هؤلاء الوعاظ، وما زال جديراً بلقب «الأستاذ»، هو محمد حسنين هيكل؟. ألا تشم فى «هيكل» رائحة جمال عبدالناصر؟. ألا تشعر بعد كل ذلك بأن مصر صغرت وضاقت واستحكمت حلقاتها؟.