التاجر لما يفلس: كان ذلك منذ حوالى ربع قرن: الرئيس مبارك يرتع فى فترة حكمه الأولى، والمناخ السياسى يوحى بأن مصر ستتخلص من المضاعفات الجانبية لتجربتى عبدالناصر والسادات، و«جمال» فى العشرين من عمره تقريباً. لا عز ولا زكريا. لا خصخصة ولا لجنة سياسات ولا سلطان لرجال الأعمال. لا توريث ولا «كفاية» ولا «سلالم» نقابة ولا محمد عبدالقدوس. لا «بيت بيتك» ولا عمرو أديب ولا صحف مستقلة. لا هيفاء تغنج ولا شعبولا يكره إسرائيل ولا سينما نظيفة ولا سويقة مسلسلات. كان فيروس الفساد كامناً، وخط الفقر عند مستوى القدمين، والمواطن لايزال حياً. كانت البطون ممتلئة: لقمة اشتراكية على لقمة انفتاح، ومقعد فى أتوبيس نقل عام، وفرختان للعيال من أقرب جمعية، ثم ركعتا شكر على نعمة «الفقر والصحة»، وكانت القلوب لاتزال تحلم: «يا عروسة النيل يا حتة من السما.. يا اللى صورتك جوه قلبى ملحمة». كنت هائماً على وجهى فى زحام القاهرة، صعلوكاً بلا قيمة، سعيداً، خالى البال، لا يؤرقنى سوى أحلام غائمة: أن تتحرر فلسطين، وأن يفوز الزمالك على الأهلى، وأن تحبنى واحدة من ثلاث: «منى».. فتاة المنيل المعقدة، الناعمة كقالب رخام، بقوامها الممشوق وعينيها الحزينتين الجميلتين وخصرها المضغوط بتنورة سوداء كالحة وأنفها الملفوف مثل أنف سيدة الشاشة. «صفية».. ابنة مصر القديمة، بشعرها القصير المقصوص بعناية، الملقى وراء أذنيها.. وجسدها المدكوك المتماسك، وسمانتى ساقيها المخروطتين كقمعى عسل. «عبير».. وردة النار الطالعة من سباخ ناهيا، بالحجاب الذى يكبح نزقها، وجسمها الفائر المستوفى، وبياضها الرائق، ونظراتها المغرضة. كانت لنا مقاهٍ وشوارع وأرصفة، وكان الشعر يُكتَب هكذا: يصعد شاعر «حداثى» شاب من «خرتية» وسط البلد فوق المنصة. يتحدب ويتقعر وينبعج ويتقيأ مقطعاً من قصيدته الجديدة... (سرسوب عرق ماشى ورايا م الحسين للسيدة.. وتمر حتة من امرأة). يقرر صديقنا محمد البرغوثى- وكان هو الآخر شاعراً عامياً قبل أن تتحلل قريحته الواعدة فى «حبر» السبابيب وتتبخر فى «فضائها» - أن يقارعه ويدحض حداثته السرسوبية. يكتب قصيدة بعنوان «رقصة حداثية»، يقول فى أحد مقاطعها:(على قهوة البستان.. شاعر بيسألنى/ الناس وشوشها مجنزرة.. وللا النهار متنى/ والجثة دى مستنظرة.. وللا الوضوء فاتنى/ أنا قلت له: يا شاعر الأرض الخراب.. كوع الماسورة بيندهك). كان الطعام سيئاً إلى حد ينبغى أن يكون شهياً، وإلا متنا من الجوع. أذكر ذلك جيداً: مطعم متواضع فى شارع المبتديان، يديره أعمى مولع بإصلاح الساعات، يساعده صعيدى هاربٌ على ما يبدو من ثأرٍ قديم: «حاسب.. هناك ذبابة ميتة على ورك الفرخة»- يقول صديقى «باسم»، خريج معهد السينما والمولع ب«فللينى». أزيحها غير عابئ وأكمل طعامى وأترك ساعتى رهناً. لم نكن فى حاجة إلى الوقت: أن نجلس على مقهى ونثرثر، ويمر الوقت من أمامنا ملقياً تحية المساء.. هذا يكفى. ليس مهماً ماذا أفعل: «افعل العكس دائماً لأنه يقيناً صواب»- تقول «أمل» قبل أن تصارحنى بحبها وبرغبتها فى السفر إلى نيكاراجوا للانخراط فى صفوف الثوار. ليس مهماً أين أسكن: «ألا أكون بعيداً عن هرم الجيزة وحديقة حيواناتها، لأن الصعيد يبدأ من أحدهما أو من كليهما». ليس مهماً أين أعمل: «أى كافيتريا فى أى مؤسسة صحفية فى أى ساعة بين الخامسة والثامنة مساء». ليس مهماً إن كان الآخرون يحبوننى أم لا.. ف«الآخرون هم الجحيم».