ونقطة اللاحكم هذه تعنى: (1) انتفاء قدرة الأطراف السياسية ومؤسسات الدولة على الإدارة السلمية والرشيدة للشأن العام. (2) غياب الاستقرار المجتمعى وانهيار شعور المواطنات والمواطنين بالأمن وتراجع شرعية الإجراءات الديمقراطية كالانتخابات إن وجدت. (3) تصاعد منسوب الصراعات السياسية والمجتمعية وتحولها إلى صراعات إلغاء وإقصاء بين أطراف لا إمكانية للشراكة الوطنية بينهم ولا رؤية لديهم للعيش المشترك والتوافق. (4) حدوث انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وتنامى ظواهر عنف رسمى وآخر شعبى على نحو يهدر كرامة المواطن ويسقط هيبة الدولة ومؤسساتها. (5) تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مع استمرار عجز السياسة وانتفاء قدرة الدولة على إدارة الشأن العام على نحو قد يسبب انهياراً مجتمعياً كاملاً إن فى سياق فشل الدولة وتفتتها وانهيار العملية السياسية أو مع حالة كارثية من الفوضى والعنف والاحتراب الأهلى. نقطة اللاحكم هذه، التى عانت من ويلاتها لبنان فى السبعينات والثمانينات ثم الجزائر فى التسعينات والصومال منذ التسعينات وسوريا منذ عامين، تقترب منها مصر الآن وبسرعة مخيفة وبطاقة تدميرية عالية. نعم مصر تقترب من نقطة اللاحكم، والمسئولية تتحملها وبمفردها نخبة السياسة حكماً ومعارضة. عبثاً يعتقد الرئيس المنتخب وجماعته وحزبها إن هم بحثوا عن مخرج بالتعويل على آلة القمع الأمنية المتورطة فى إهدار كرامة المواطن وانتهاك حقوق الإنسان التى رتبت بهذه الجرائم انهيار الشرعية الأخلاقية والشعبية للرئيس، ومن خلال الإصرار على إجراء الانتخابات البرلمانية فى ظل قواعد غير عادلة للعملية السياسية وبيئة مجتمعية بها من العنف والصراع وسقوط هيبة الدولة وتفاقم الأزمة الاقتصادية ما قد يجعل من إجراء الانتخابات عاملاً مساعداً على تمكن نقطة اللاحكم من مصر. عبثاً تظن بعض فصائل المعارضة إن هى بحثت عن التخلص من «حكم الإخوان» عبر دفع البلاد إلى نقطة اللاحكم وانهيار العملية السياسية والاستهانة بالخطر الذى يمثله تنامى العنف المجتمعى، فالحالة هذه لن تبقى لا على حكم ولا معارضة وسياقها هو إما فشل الدولة وتفتتها أو الفوضى والحرب الأهلية. عبثاً تفكر فصائل سياسية أخرى حين تروج لاستدعاء الجيش إلى الحياة السياسية من جديد، هذه المرة فى دور المنقذ الأخير من «حكم الإخوان» وملاذ الدولة الوطنية الأخير، فاستدعاء الجيش انقلاب كامل على الإجراءات الديمقراطية والاستقواء به على رئيس منتخب، فضلاً عن كونه صنو نزوع استبدادى واضح القيم الديمقراطية منه براء، سيفتح الباب المجتمعى على مصراعيه للعنف والفوضى. عبثاً يحسب الحكم والمعارضة قادم الأيام إن توقعوا «إنقاذاً» من قوى إقليمية أو خارجية، فالقوى هذه ومع التسليم بحضور مصالح لها فى مصر تريد ضمانها ستكون الأسبق للانصراف عن «الشأن المصرى» ما أن تتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتستحكم حلقات نقطة اللاحكم ولن تفعل ودونما اعتبار للسيادة الوطنية إلا ما تراه ضرورياً لحماية مصالحها (كعمليات الطائرات الأمريكية بدون طيار المتتالية على المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان وفى اليمن وحروب الجيوش الأفريقية بالوكالة فى الصومال). نعم مصر تقترب من نقطة اللاحكم، والحلول الحقيقية غائبة والبحث عنها وطرح مبادرات لتفعيلها باتا مدعاة للرفض الفورى أو المزايدة والتخوين فى ظل تخندق الجميع خلف المواقف المعلنة والرايات الحزبية ومع تصاعد منسوب الصراع فى السياسة وانتهاكات حقوق الإنسان المستمرة. بالأمس دعوت الحكم والمعارضة إلى التراجع ولو خطوة واحدة إلى الوراء، بالاعتراف بارتكاب أخطاء فادحة فى إدارة المرحلة الراهنة والاعتذار من الشعب المصرى والذهاب إلى مائدة مفاوضات فورية للبحث عن حلول حقيقية تباعد بين الوطن وبين نقطة اللاحكم الكارثية. واليوم، أجدد الدعوة إلى مائدة المفاوضات الفورية استناداً إلى المبادئ وأجندة القضايا التالية: (1) نبذ العنف وتوجيه رسالة واضحة من الحكم والمعارضة إلى الجموع المحتجة فى محافظات القناة والدقهلية والقاهرة وغيرها مفادها أن انتهاكات حقوق الإنسان والمظالم وأعمال العنف التى حدثت خلال الفترة الماضية سيتم التحقيق القضائى والمستقل بها وسيحاسب المتورطون دون تستر أو حماية وإفلات من العقاب، وأن وقف العنف الرسمى وتوظيف الآلة الأمنية للقوة المفرطة ووقف أعمال العنف الشعبى المضاد ضرورة وطنية. (2) قبول جماعات وأحزاب اليمين الدينى، الإخوانية والسلفية والجهادية سابقاً كالجماعة الإسلامية، النظر فى الضرورات التى تدفع باتجاه تأجيل مؤقت للانتخابات البرلمانية لمدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على سنة بهدف تهيئة البيئة المجتمعية لإجراء الانتخابات وتغيير قواعد العملية السياسية غير العادلة. (3) تحديد قواعد العملية السياسية المراد تغييرها فى التعديلات الدستورية، إعادة النظر فى قانون الانتخابات، تعيين نائب عام جديد وفقاً للمعايير الدستورية، تفعيل مبدأ حيادية أجهزة الدولة التنفيذية والإدارية والشروع بالتفعيل هذا فى الوزارات والمصالح التى تتدخل فى إدارة الانتخابات. (4) النظر فى ضرورة تشكيل حكومة شراكة وطنية تمثل بها الأحزاب وفقاً لأوزانها النسبية فى مجلس الشعب 2011، ويعهد لكل وزير وعلى نحو فورى بمهمة تكوين خلية لإدارة الأزمة فى المجالات المسئول عنها من التكنوقراط المحايدين وتكون لهم أيضاً صلاحية وقف فرض لون حزبى أو أيديولوجى معين على الوزارات والمصالح (خلية أزمة وأومبدسمان فى كيان واحد) وعلى أن تعرض الحكومة الجديدة برنامجها لإخراج مصر من أزماتها على الرئيس المنتخب ومجلس الشورى وفى حوار وطنى شفاف وجاد. (5) تلتزم المعارضة بقبول استمرار الرئيس المنتخب فى منصبه إلى حين انتهاء الفترة الرئاسية وتبتعد عن الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، شريطة العمل على وقف انتهاكات حقوق الإنسان والعنف الرسمى ومحاسبة المتورطين وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية فى إطار جامع للعدالة الانتقالية وللمصالحة. (6) تتعهد كافة الأطراف السياسية، حكماً ومعارضة، بالوقف الفورى للحروب الكلامية وبالاعتراف المتبادل بشرعية الوجود وتلتزم أمام الرأى العام بالعمل على تفعيل الشراكة الوطنية فى إطار توافقى لا يتناقض مع المنافسة الحزبية والانتخابية أو مع حضور الأغلبيات والأقليات فى البرلمان وفى السلطة التنفيذية. هذا اجتهاد متواضع، قابل بكل تأكيد للتغيير والتعديل والتطوير، أضعه أمام الحكم والمعارضة وأحذرهم من نقطة اللاحكم التى نقترب منها. أدعوهم إلى التفكير الجاد بالذهاب إلى مائدة المفاوضات الفورية دون رفض مدفوع برايات حزبية أو بمزايدات تبتذل فى الواقع الراهن مفاهيم كالديمقراطية والعدالة والثورة. أتمنى على الحكم والمعارضة إدراك محدودية فاعليتهم الراهنة وقصور إجراءاتهم، وأن يقدموا من ثم مصلحة الوطن على الحسابات الانتخابية الضيقة وعلى أوهام الفوضى كحل للخلاص أو الجيش كملاذ أخير. أتمنى عليهم، وأوظف أدواتى داخل دوائر المعارضة وفى الإعلام وبعض العلاقات بالحكم لدفعهم إلى مائدة المفاوضات والتوافق على حلول حقيقية تباعد بين مصر الغالية وبين كارثة اللاحكم.