«المحنة» فى اللغة، هى البلية أو البلاء الذى يمتحن به الإنسان، و«البلية» التى يُمتحن بها الإخوان اليوم امتحاناً عصيباً هى أنهم يحكمون مصر ويتولون الأمور فيها، وهذا البلاء الذى يصيب الإخوان لم يقع فوق رؤوسهم مصادفة، وإنما سعوا هم إليه سعياً حثيثاً، وتحايلوا وناوروا (من المناورة) حتى وصلوا إلى مبتغاهم.. .فماذا هم فاعلون؟ وكيف يكون أداؤهم؟.. .وما درجة النجاح أو الفشل، بعد أن حمَلوا أنفسهم -بلا شك- بما لا طاقة لهم به! المدهش فى ذلك الأمر -ابتداء- هو أن بعضاً من أفضل عناصر الإخوان المسلمين، والمتعاطفين معهم، حذروا منه بكل وضوح، وبعضهم فعل ذلك مبكراً للغاية، وفى هذا السياق لا بد أن أشير بوجه خاص إلى التحليل الثاقب الذى تضمنه مقال للأستاذ فهمى هويدى فى جريدة «الشروق» يوم 2 أبريل العام الماضى(2012) بعنوان: «وقعوا فى الفخ»، وذلك عقب إعلان الإخوان المسلمين فى ذلك الوقت عن نيتهم تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية! فى هذا المقال تساءل هويدى: «كيف مر على الإخوان أن الجماعة الوطنية المصرية، بل والمجتمع المصرى بأسره، يمكن أن يحتملوا فى وقت واحد رئاستهم لمجلسى الشعب والشورى والجمعية التأسيسية للدستور ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية أيضاً؟ كيف يقتنع الرأى العام بحديثهم عن المشاركة أو عن زهدهم فى السلطة؟» وبعد هذا التقديم، طرح هويدى عدة أسئلة جوهرية: هل الإخوان جاهزون لحمل المسئولية التى يتقدمون نحوها؟ هل بإمكانهم وحدهم مواجهة تحديات الداخل، وعلى رأسها الأمن والاقتصاد والعدل الاجتماعى؟.. .إلخ. وفى تصريح ل«المصرى اليوم» فى 3 أبريل 2012، أعرب د.محمد البلتاجى، وهو القيادى فى «الحرية والعدالة»، وعضو مجلس الشعب، عن اتفاقه الكامل مع ما جاء فى مقال هويدى المشار إليه، منوهاً إلى أنه صوّت بالرفض على قرار «الجماعة» بترشيح المهندس خيرت الشاطر لمنصب الرئاسة، على أساس أنه من الظلم للوطن وللإخوان المسلمين أن يتحملوا وحدهم مسئولية الوطن كاملة فى تلك الظروف الحرجة، وتحدث د.كمال الهلباوى فى أكثر من مناسبة عن «أخطاء الإخوان المسلمين»، وذكر مؤخراً فى أحد البرامج التليفزيونية أن جماعة الإخوان «لم تتخيل وجود رئيس إخوانى»، وأن الرئيس محمد مرسى «اختار مستشارين، بعضهم رحل وبعضهم ليسوا من ذوى الخبرة». وفى نفس هذا الاتجاه وفى مقال بعنوان «خطاب مفتوح إلى الإخوان» ب«المصرى اليوم» صباح السبت الماضى (9 فبراير) كتب د.محمد حبيب، القيادى الإخوانى السابق، مقالاً هاماً جاء فيه: «فى رأيى أن إدارة د.مرسى دون المستوى، أصاب وأخطأ فى أمور كثيرة، أعطى وعوداً وحنث فيها، خسر الكثير وخسرت معه الجماعة أكثر»، وأنهى د.حبيب مقاله بالقول: «يجب أن نقر ونعترف بأن العبء أكبر بكثير جداً من الإخوان، ومن التيار الإسلامى بكل فصائله». علينا إذن أن نعترف بأن عبء إدارة الدولة المصرية، خاصة فى ظل ظروف ما بعد الثورة، لم يكن سهلاً على الإطلاق، وإذا كان هذا العبء قد تحمله الإخوان وحزب «الحرية والعدالة»، باعتبارهم من فاز بالأغلبية فى الانتخابات، فالأغلب أن أداء أى حزب من الأحزاب الأخرى لم يكن سيختلف كثيراً،لو أصر على أن يحمل تلك المسئولية منفرداً، طالما أنه لم يمارس الحكم من قبل! إن الحزب الوحيد الذى كانت له كوادره التى أدار بها البلاد كان هو فقط «الحزب الوطنى» الذى غطت عضويته، شبه الإجبارية، لعدة عقود، الغالبية العظمى من كوادر الدولة المصرية! بصرف النظر عن السياق السياسى لعملهم أو ملامح الفساد التى شابت ممارساتهم، فشئون الحكم -فى النهاية- لا تدار بالسياسة فقط، ولكنها تعتمد على الكفاءات والخبرات المهنية والمتخصصة، نظرياً وعملياً، لذلك فإن المشاركة والائتلاف بين الأحزاب، هى الحل المنطقى الأسلم لذلك المأزق. غير أن القصور -فى الواقع- لم ينصرف فقط إلى الافتقاد للقيادات والكوادر الفنية والمتخصصة الكافية، فى كافة المجالات(وأقصد بالطبع القيادات من المستوى العالى ذات الأهلية لتولى مناصب وزارية أو إدارية عليا) ، وإنما أيضاً على مستوى وجود «سياسات عامة» ذات ملامح وأولويات واضحة.. . حقاً، إن لحزب «الحرية والعدالة» برنامجه السياسى والانتخابى، ولكنه يظل برنامجاً نظرياً لن يختلف كثيراً عن برامج معظم الأحزاب، التى تدرج جميعها كافة المطالب والقضايا المثارة اجتماعياً، ولكننا لا نجد أبداً «سياسات عامة» محددة (فى التعليم أو الصحة أو الإسكان أو البيئة.. .إلخ) تنطوى على نقلات أو قفزات نوعية تحتاجها مصر بالضرورة! ذلك -فى تقديرى- عنصر إضافى خفى كامن وراء المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات العديدة التى شهدتها مصر طوال الأشهر الماضية، وبعبارة أخرى، هل إذا كانت حكومة «الحرية والعدالة» قدمت إلى المواطنين سياسات وبرامج طموحة للتغيير، فى أى من مجالات حياتهم، أو إرهاصات بإنجازات ملموسة فى تلك المجالات، أو حتى أى قدرة على إيقاف التدهور فيها، كنا سنرى هذا الخروج الاحتجاجى السهل وراء المطالب السياسية؟ غير أن هذا «القصور الإخوانى» فى إدارة الدولة المصرية بشكل منفرد، الذى اعتبره هويدى «فخاً للإخوان»، ورآه الهلباوى «عدم تهيؤ»، وقدر محمد حبيب أنه -بحق- عبء ثقيل عليهم.. .يستدعى إلى الذهن مفارقة لا تخلو من دلالة، وتعكس -فى الواقع- البعد الثانى الذى أرصده فى «محنة الإخوان»! فالجماعة التى يفترض أنها لا تعترف ب«الدولة» فى سياق أيديولوجيتها الشمولية التى تؤمن فقط ب«الأمة الإسلامية»، والتى ارتبطت بالتعبير الشهير لمرشد الجماعة الأسبق الأستاذ مهدى عاكف (فى حديثه الشهير للصحفى سعيد شعيب فى روزاليوسف فى أبريل 2006): «طظ فى مصر وأبو مصر واللى فى مصر»!! هذه الجماعة يقدر لها الآن حكم مصر «الدولة» من خلال حزب «الحرية والعدالة»، الذى يفترض أنه -عكس الجماعة- كيان سياسى رسمى ووطنى يمارس نشاطه وفقاً للقوانين المصرية، وعلى الأرض المصرية فقط، وواقع الأمر، أن التداخل بين «أممية» أو «عالمية» الجماعة، وبين «وطنية» الحزب إنما تبدى فى أكثر من مشهد طغى فيه منطق «الجماعة» على منطق «الحزب»، وعلى سبيل المثال، فإن حصار «المحكمة الدستورية»، الذى استمر أياماً طويلة ، على مرأى ومسمع من العالم كله، بلا أى محاولة من الحزب لإنهائه، يعكس، ليس فقط المشاعر العدائية الدفينة لدى الإخوان إزاء المحكمة، وإنما يعكس أيضاً -ضمنياً- استهتاراً بمفهوم الدولة وهيبة الدولة، فالمحكمة الدستورية هى أحد أعمدة السلطة القضائية، والحفاظ على كرامتها وحمايتها هو جزء لا يتجزأ من الحفاظ على كرامة الدولة، والأمر نفسه ينطبق على محاصرة أنصار الشيخ «حازم صلاح أبوإسماعيل» لمدينة الإنتاج الإعلامى، التى أضحت- فى الواقع- رمزاً بل وتجسيداً لتفوق الرصيد الإعلامى ، بكافة عناصره، لدى مصر، بما تضمه من «استوديوهات» وإمكانات هائلة، ومكاتب وفروع للعديد من القنوات الإعلامية التى تغطى المنطقة العربية ، بل والعالم كله، فى كلتا الحالتين أظهر الحزب تبعيته الكاملة للجماعة، وقصوره الفادح عن رؤية مصلحة الدولة والوطن! أما البعد الثالث المفترض لمحنة الإخوان، فهو ذلك المتعلق بالصراع الذى يجرى فى داخلهم -والذى لم يفلحوا فى الفكاك منه- بين الأجيال، والذى يترتب بالضرورة على الاختلافات والتباين فى الرؤى ومناهج التفكير بين الكبار والشباب، فلا شك أن «السيطرة» على الشباب، وإدماجهم فى الجماعة ، ثم فى الحزب، هى من أبرز ملامح «الإخوان» ، كتنظيم شمولى صارم، ومع ذلك فإنهم لم يسلموا من تأثير الانقسام أو المواجهه الجيلية، والذى تبدى فى خروج شباب من الجماعة، أسهموا بشكل أساسى فى تشكيل حزب «التيار المصرى»، الذى بدأت بعض عناصره تلمع فى الإعلام، والذى بدا أنه -من حيث الجوهر- يمثل النسخة «الشبابية» من حزب «مصر القوية» برئاسة د.عبدالمنعم أبوالفتوح -الذى سبق «إخراجه» من الإخوان- والذى عبر عن اتجاه أكثر انفتاحاً واعتدالاً فى داخل الإخوان، ولا شك أنهم -أى الإخوان- لم يكونوا سعداء بهذا التصدع، ولن يكونوا بالطبع، وعلى أية حال، لم يكن غريباً أن يسعى «التيار المصرى» للتحالف والتنسيق مع قوى «وسطية» أخرى، ليس مصادفة أن أهمها بالطبع حزب مصر القوية. الخلاصة، هى أن الإخوان المسلمين يواجهون تحديات هى الأهم والأخطر فى تاريخهم كله، بلا أدنى شك، فهل سوف يصمد الإخوان ويستمر صعودهم، أم هم وصلوا إلى القمة التى بدأ الهبوط بعدها بالفعل؟