وكيلة اقتصادية الشيوخ: التسهيلات الضريبية الجديدة تدعم استقرار السياسات المالية    النائب محمد مصطفى: التسهيلات الضريبية الجديدة دفعة قوية للصناعة المصرية    النائب ناصر الضوى: الإصلاحات الضريبية الجديدة تدعم تحول الاقتصاد نحو الإنتاج والتشغيل    نتنياهو بعد غزة: محاولات السيطرة على استخبارات إسرائيل وسط أزمة سياسية وأمنية    احفظها عندك.. مجموعات كأس العالم 2026 كاملة (إنفوجراف)    تفاصيل مثيرة في قضية "سيدز"| محامي الضحايا يكشف ما أخفته التسجيلات المحذوفة    "بيطري الشرقية" يكشف تفاصيل جديدة عن "تماسيح الزوامل" وسبب ظهورها المفاجئ    «بيصور الزباين».. غرفة تغيير ملابس السيدات تكشف حقية ترزي حريمي بالمنصورة    وفاة عمة الفنان أمير المصري    عالم مصريات ل«العاشرة»: اكتشاف أختام مصرية قديمة فى دبى يؤكد وجود علاقات تجارية    أحمد مجاهد ل العاشرة: شعار معرض الكتاب دعوة للقراءة ونجيب محفوظ شخصية العام    البلدوزر يؤكد استمرار حسام حسن وتأهل الفراعنة فى كأس العالم مضمون.. فيديو    لارا أبوسريع تحصد الميدالية الذهبية في كأس مصر للجمباز    يورتشيتش يكشف عن قائمة بيراميدز لمواجهة بتروجت في قمة مؤجلة بالدوري الممتاز    تايكوندو - معتز عاصم يتوج بذهبية بطولة العالم تحت 21 عاما    كأس العالم 2026 – ساسي: سنتحد لصناعة التاريخ.. وهذه ميزة للنسخة المقبلة    الخارجية الفلسطينية تُرحب بقرار الأمم المتحدة بتمديد ولاية وكالة الأونروا    مسئول أمريكى: قوة الاستقرار الدولية فى غزة قد تُصبح واقعًا أوائل عام 2026    تطورات غزة تلقي بظلالها على إسرائيل: ضغوط داخلية وتحذيرات أمنية في القطاع    محامي ضحايا مدرسة "سيذر" يكشف تفاصيل إحالة القضية إلى النيابة العسكرية    رئيس لبنان: نعتمد خيار المفاوضات مع إسرائيل لوقف الأعمال العدائية    غرامة على إكس، معركة دبلوماسية بين أمريكا والاتحاد الأوروبي على المحتوى المضر    أزمة أم مجرد ضجة!، مسئول بيطري يكشف خطورة ظهور تماسيح بمصرف الزوامل في الشرقية    قارئ قرآن فجر نصر أكتوبر: «دولة التلاوة» يحتفي بالشيخ شبيب    المدير التنفيذي لمعرض الكتاب يوضح سبب اختيار شعار «ساعة بلا كتاب.. قرون من التأخر» للدورة المقبلة    لأول مرة.. زوجة مصطفى قمر تظهر معه في كليب "مش هاشوفك" ويطرح قريبا    تباين الأسهم الأوروبية في ختام التعاملات وسط ترقب لاجتماع الفيدرالي الأسبوع المقبل    حيلة سائق للتهرب من 22 مخالفة بسيارة الشركة تنتهي به خلف القضبان    رسالة بأن الدولة جادة فى تطوير السياسة الضريبية وتخفيض تكلفة ممارسة الأعمال    رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الأسبق: ما حدث بحق قحطان الشعبي حماقة.. وأجندات خارجية وراء الصراعات    الصحة تفحص أكثر من 7 ملايين طالب ضمن مبادرة الرئيس للكشف المبكر عن الأنيميا والسمنة والتقزم بالمدارس    الصين: نساعد في تحسين الوضع الإنساني في غزة وتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني    القاصد يهنئ محافظ المنوفية بانضمام شبين الكوم لشبكة اليونسكو لمدن التعلم 2025    بيل جيتس يحذر: ملايين الأطفال معرضون للموت بنهاية 2025 لهذا السبب    مكاتب البريد تتيح إصدار شهادة بسعر المشغولات الذهبية    بالأسعار، الإسكان تطرح أراضي استثمارية بالمدن الجديدة والصعيد    دعاء الرزق وأثره في تفريج الهم وتوسيع الأبواب المغلقة وزيادة البركة في الحياة    وزارة الداخلية تحتفل باليوم العالمي لذوى الإعاقة وتوزع كراسى متحركة (فيديو وصور)    عضو الجمعية المصرية للحساسية والمناعة يوضح أسباب تفشّي العدوى في الشتاء    كيف أتجاوز شعور الخنق والكوابيس؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    وزارة العمل: وظائف جديدة فى الضبعة بمرتبات تصل ل40 ألف جنيه مع إقامة كاملة بالوجبات    من بينهم ترامب.. 3 رؤساء حاضرون في قرعة كأس العالم    حافظوا على تاريخ أجدادكم الفراعنة    14ألف دولة تلاوة    تفاصيل تخلص عروس من حياتها بتناول قرص حفظ الغلال بالمنيا بعد أشهر قليلة من زوجها    جامعة حلوان تنظّم ندوة تعريفية حول برنامجي Euraxess وHorizon Europe    شركة "GSK" تطرح "چمبرلي" علاج مناعي حديث لأورام بطانة الرحم في مصر    لتعزيز التعاون الكنسي.. البابا تواضروس يجتمع بأساقفة الإيبارشيات ورؤساء الأديرة    «الطفولة والأمومة» يضيء مبناه باللون البرتقالي ضمن حملة «16يوما» لمناهضة العنف ضد المرأة والفتاة    جامعة الإسكندرية تحصد لقب "الجامعة الأكثر استدامة في أفريقيا" لعام 2025    بعد انقطاع خدمات Cloudflare.. تعطل فى موقع Downdetector لتتبع الأعطال التقنية    خشوع وسكينه....أبرز اذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    طريقة عمل السردين بأكثر من طريقة بمذاق لا يقاوم    مواعيد مباريات الجمعة 6 ديسمبر 2025.. قرعة كأس العالم 2026 وبطولة العرب وقمة اليد    مصر ترحب باتفاقات السلام بين الكونجو الديمقراطية ورواندا الموقعة بواشنطن    استشاري حساسية: المضادات الحيوية لا تعالج الفيروسات وتضر المناعة    كيف تُحسب الزكاة على الشهادات المُودَعة بالبنك؟    ننشر آداب وسنن يفضل الالتزام بها يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسخرة مستمرة يا عم جلال
نشر في الوطن يوم 11 - 02 - 2013

يكتب عم جلال : "ثم تسأل حضرتك البحر بيضحك لية؟ طبعاً بيضحك علينا".
كيف استطاع الراحل العظيم جلال عامر أن يظل مدفوناً وهو على قيد الحياة لسنوات، إلا لو كان من هؤلاء الذين يؤمنون بأن المبادئ لا تباع ولا تشترى، وأن الموهبة لا تتسول، وأنه سيظل حياً مهما حاول كثيرون أن يهيلوا عليه التراب.
عرفت أمير الساخرين حين كنت أسمع عباراته في فقرة الأقوال المأثورة التي كان يقدمها عمنا الإعلامي الكبير حمدي قنديل. فيلسوف يكتب وهو مغمض العينين، وبساطة تستفزك حتى تظن أنك قادر على "تقليدها"، ثم يكتشف كثيرون أنهم مهما فعلوا، فجلال عامر هو الأصل، والباقي "فالصو".
كنت قد تخرجت في الجامعة ورحت أنظر في شغف لتجربة جريدة القاهرة التي تصدرها وزارة الثقافة وكيف يكتب فيها بلال فضل وأكرم القصاص وحمدي عبد الرحيم ووائل عبد الفتاح، وكيف يرأس تحريرها صلاح عيسى ، ولم أكن من هؤلاء الذين ينظرون لصفحة بريد القراء التي حررها عم جلال، واكتفى فيها بعمود صغير بدون صورة يكتب فيه نقوشه على حائط الزمن، لكن حمدي قنديل كان ينتقي العبارة تلو الأخرى لدرجة أنه في إحدى الحلقات عرض تقريبا ثلاث عبارات لجلال عامر في فقرة واحدة، وكان الرجل مذهلاً بكل ما تحمله الكلمة من معان.
يكتب عم جلال : "في الآخرة المنافقون فى الدرك الأسفل من النار ،، لكنهم فى الدنيا في الصفحات الأولى من بعض الصحف"،
قبلها سمعت أنه كان يكتب في الأهالي، وأنا من هؤلاء الذين لا يعترفون بوجود صحافة حزبية في مصر لاسيما بعد أن أصبحت جريدة الأهالي وقتها لا تختلف عن مساكن الأهالي، حتى لتشعر وأنت تقرأها أنك اشتريت الجريدة "محارة" و"حلوق"، ولذلك لم أكن أتابع عم جلال الذي عاد ليطل من جديد صافعاً الجميع بموهبته العابرة للدهشة عبر مقالاته في جريدة البديل، ثم أخيراً.. أخيراً.. أخيراً التقطه إبراهيم عيسى ليقدمه إلى قراء الدستور في صفحة كاملة أسبوعياً عرف نفسه في أول أعدادها بمقال أقل ما يقال عنه أنه من أعظم ما كتب في الأدب الساخر، إذ يقدم نفسه فيقول : "اسمى «جلال» وفى البيت «المخفى».. وأنا أول مواطن يدخل قسم الشرطة ويخرج حياً.. وأنا المصرى الوحيد الذى كتبت فى إقرار ذمتى المالية أن عندى «حصوة» فأنا لا أمتلك «سلسلة مطاعم» بل فقط «سلسلة ظهرى» وسلسلة كتب، وحضرت عشرات المؤتمرات الثقافية تحت شعار «دع مائة مطواة تتفتح» ونجوت منها.. وأعرف أن 90% من جسم الإنسان ماء، لكنه يستطيع أن يفعل الكثير بالعشرة فى المائة الباقية.. عندى بطاقة تموين حمرا خالية من الدهون، لأن البقال كل شهر يسرق الزيت، ولا أصرف معاشاً بسبب عيب خلقى وأخوض معكم حرب الثلاث وجبات.. وأرتدى بيجاما مخططة ولعلها الشئ الوحيد المخطط فى هذا البلد العشوائى، وأى تغيير فى لون البيجاما أبلغ عنه فوراً شرطة المصنفات".
كان عم جلال أستاذاً بحق، ولا أعرف كيف اكتشفناه متأخراً، ولا كيف رضت مصر أن تدفنه حياً رغم أنه أحد أبطال حرب أكتوبر، ولا كيف بقي ثابتاً على مبادئه وأفكاره ومحبته للبقاء في الإسكندرية حتى وفاته، وكان – مع كل ذلك – يأخذ أموالاً قليلة "ثمن بخس دراهم معدودة" في وقت كان أنصاف وأرباع وأعشار المواهب في أماكن أخرى يقبضون عشرات الآلاف،
يكتب عم جلال : نحن الشعب الوحيد الذى يستخدم "المخ" فى السندوتشات.
يحكي لي الشاب الجميل علي الدين الحكيم ابن الكاتب الكبير سليمان الحكيم عن زمالة والده لجلال عامر في الجيش، وكيف أحب والده "العسكري" جلال عامر "الضابط" من أول لقاء حين قال الضابط للعسكري: متشكر لحضرتك.
يكتب عم جلال :"بلادى وإن ضاقت عليَّ أديها لأخويا الصغير، وما تقولش إيه ادتنا مصر علشان دى كلمة عيب".
ظللت أتعلم من عم جلال، وأقارن بينه وبين عظماء آخرين أمثال محمود السعدني الذي نال منه المرض اللعين، ومنعنا من إطلالته حتى توفاه الله، وأحمد رجب الذي لا أعرف لماذا كرهته وقتها بعزلته المستفزة وتعاليه على قرائه وبخله في الكتابة التي كنا ننتظر منها جرعات أكثر عمقاً وتفصيلاً و"حرفنة" أفسدها الاقتراب من السلطة في فترة من الفترات، حيث كان السقف هو رئيس الوزراء أما رئيس الجمهورية فيلتقي بشكل دوري سنوي بالكاتب الكبير والرسام مصطفى حسين كدليل على أنه ديمقراطي يتقبل نقدهما رغم أن أيهما لم يجرؤ ولو مرة واحدة على نقده، وهكذا صار عم جلال بالنسبة لي هو أمير الساخرين، الشاطر الذي يغزل برجل حمار ولا يبيع مبادئه، والمحارب الصلب الذي يستلهم روح أكتوبر في مواجهة عوز الحياة، ومع كل ذلك بقي جلال عامر الكاتب غير معروف للدرجة التي يبدو أنها أرقته هو شخصياً، فكتب :"أؤمن أن أعظم كاتب فى البلد هو «المأذون» وأن مصر بخير ولا ينقصها إلا أكلة «جنبري» على البحر.. وأحفظ برنامج السيد الرئيس فى درجة حرارة الغرفة، وأعرف أن الحياة بدأت بضربة جوية وسوف تنتهى بضربة أمنية، لذلك لا أحب الصراعات، والمرة الوحيدة التى تصارعت وتدافعت فيها فى الطابور ونجحت فى الحصول على خبز سحبوه منى بحجة أننى أتعاطى منشطات.. أعشق أخلاق زمان عندما كنت طفلاً وأرى صاحب أبى ولو على بعد كيلو مترا فأجرى وأعزم عليه بسيجارة".
قد يكون من الطبيعي إذن أن أطلب رقم هاتفه من أصدقائي في الدستور، وأضع يدي على قلبي وأنا أشعر بخفقانه وكأنني أطلب رقم حبيب لا أنتظر منه الرد ولا أعرف ماذا سأقول له، وهكذا طلبته، ولم تستغرق المكالمة سوى دقيقتين حيث رحب بي، وقلت له أنني أحبه وأحب أن أقرأ مقالاته، فكان متواضعاً وسعيداً وكأنني أعطيته جائزة ثم أغلقت معه دون أن أقول له أنني أشرف بزمالته في نفس الجريدة.
يكتب عم جلال : "كان على المنتحر أن يرمي نفسه تحت العجلات، أما الآن فيكفي جداً أن يركب القطار".
بعدها انتقل عم جلال للعمل بالمصري اليوم، وكان إبراهيم عيسى متفهماً جداً وأنا أقول له : خسرناه ، فيرد :طب أعمل ايه.. من حقه طبعاً.. شوف احنا بنديله كام والمصري اليوم هتديله كام، وكانت المصري اليوم وقتها مضرب المثل في "فلوسها"، وإغرائها للكتاب بالعمل برواتب أفضل، وكان ذلك سبباً في العديد من الخلافات بين إبراهيم عيسى ومجدي الجلاد وصلاح دياب، لأن الأخيرين في فترة تعاقدا مع قسم الكاريكاتير بالكامل رغم أنه لم يكن هناك كاريكاتير أصلاً في المصري اليوم (أشرار برضه ما يغركش).
يكتب عم جلال : "حجم التغيير في بلادنا 2 لعيبة وحارس مرمى".
يوميا.. كان عم جلال يغرد من خلال "تخاريف"، وقبل الثورة قابلته بالصدفة في حفل خاص نظمه ممدوح حمزة لعلاء الأسواني بعد فوزه بجائزة عالمية، وكان الأسواني كريماً حين دعاني كواحد من أصدقائه الذي يجب أن يكونوا موجودينمعه في هذا اليوم، وفي مزرعة ممدوح حمزة بدهشور، جاء عم جلال متأخراً بعد صلاة الجمعة، وتصافحنا وعرفته بنفسي فابتسم وقال لي ما أخجلني، ثم التقطت له صورة تحتفظ بها الآن ابنته ريهام على "البروفايل" الشخصي لها على "فيسبوك".
كانت إطلالات عم جلال التليفزيونية رائعة ومبهجة، ولا أنسى إطلالته ذات مرة مع بلال فضل وعمر طاهر برفقة صديقنا شريف عامر في "الحياة اليوم"، كما لا أنسى تفرقته بين "الركنة" و"الترييحة"، والتي يقوم بها قطار الساعة الثانية الذي يصل بعد موعده بساعتين على الأقل لأن "القطر كان بيريح في النص".
ثم تقوم الثورة، ويتجلى جلال عامر من جديد..
يكتب عم جلال: "كنت أحب مصر من ورا مراتى.. وبعد 25 يناير صارحتها بالحقيقة".
ويسخر من الحكام المذعورين من الثورة فيكتب: "الحكام العرب اكتشفوا أن بلادهم فيها «بترول» فى الثلاثينات من القرن الماضى ثم اكتشفوا أن بلادهم فيها «شعوب» الأسبوع الماضى فقط".
بعد الثورة كان الرجل متفائلاً بشدة، قبل أن يختطف العسكر الثورة، ويمضي بها الإسلاميون بعيداً، وينقسم الناس من جديد؛ ليبكي جلال عامر بكاءه الذي أثار شجون الجميع مؤكداً أن "مصر مش دبيحة"..، و"مصر هتكسبهم".. قبل أن يردف: "منهم لله"
قبل أسبوعين من وفاته تحدثت إليه هاتفياً، فقال لي ربما للمرة الأولى: احنا بنحبك أوي يا محمد ومبسوطين منك.. ربنا يبسطك يا عم جلال.. ألن تنزل قريباً للقاهرة، فيقول لي: ما تيجي انت إسكندرية..فيه قهوة بقعد عليها نقعد ناخد شاي سوا، وأعده بأن يحدث ذلك قريباً، ولا يمهلني القدر أن أفي بوعدي.
يخرج عم جلال يوم 10 فبراير مع المسيرات التي تجوب الإسكندرية، ويصافح الجميع الذين يحبونه ويتفاءلون به، لكن تحدث اشتباكات فجأة، ينفعل عم جلال وهو يسقط "المصريين بيموتوا بعض.. المصريين بيموتوا بعض"..، ويقع عم جلال. يجرون به للمستشفيات فلا يجد أي معاملة محترمة من كل المستشفيات بما فيهم مستشفى القوات المسلحة في الإسكندرية. أتصل بهاتفه فيرد ابنه المسرحي رامي جلال عامر الذي سيصير كاتباً بعد أن يتعلم من والده ألا يكون سوى نفسه، وألا يبيع موهبته أو مبادئه، بين الحين والآخر، يرد رامي مرتبكاً: ادعوا له. في البداية نظن الأمر بسيطاً، لكن رامي يؤكد أنه سيدخل إلى عملية جراحية فوراً.. يدخل عم جلال وسط دعوات محبيه..
يتحول "تويتر" إلى تغريدات تدعو لعم جلال..
يكتشف الناس فجأة أن لدينا فيلسوفاً عظيماً يهرولون إلى نبع حكمته عبر مقالاته، ومقولاته على "فيسبوك" و"تويتر" وكتبه التي لم يتقاضى عنها حقوقه التي تليق بموهبته وعظمته.
في صباح 12 فبراير أفاجأ بتغريدة من محمد يسري سلامة ينعي فيها عم جلال..ياااه يا عم جلال، ألن تستقبلني حين أذهب للإسكندرية، ألن تعزمني على كوب الشاي، ألن أحظى بالجلوس معك ثانية، وهل ستحرمنا بعد أن حلمت ب"عقد اجتماعي جديد" كتبت عنه آخر مقال لك؟!
أتصل برامي غير مصدق، فيؤكد الخبر وسط دموعه. أنقل الخبر مؤكدا هذه المرة، وأنا أغالب دموعي وألمي.
يقول عم جلال : "كل واحد يسأل الآن: (مصر رايحة على فين).. مش تسألوا قبل ما تركبوا".
أسأل رامي عن ترتيبات الجنازة فيقول: لسة مش عارفين .. بس غالباً هتبقى في القائد إبراهيم.
يقول عم جلال: "البلد دي فيها ناس عايشة كويس..، وناس كويس إنها عايشة".
لم نلحق بالجنازة، لكن ياسر الزيات يسأل عن ترتيبات العزاء، ويتصل عمر طاهر مؤكداً أن نذهب سوياً، ثم يعاجلني: "طب احنا مش هنعمله حاجة؟".
يكتب عم جلال : "مجتمع لا يهمه الجائع إلا إذا كان ناخبا، ولا يهمه العاري إلا إذا كان امرأة".
نتحدث مع رامي في رغبة عدد كبير من محبيه في إقامة سرادق عزاء له في القاهرة بحضوره، ونستأذنه في ذلك، ثم يعلن مجدي الجلاد مع معتز الدمرداش عن عزاء في الحامدية الشاذلية تقيمه "المصري اليوم"، لكن أبناء جلال عامر يرفضون ويعتذرون بشياكة وأدب رباهم عليه جلال عامر.
يكتب عم جلال : "أصبحت مهمة المواطن صعبة، فعليه أن يحافظ على حياته من البلطجية وأن يحافظ على عقله من السياسيين".
في طريق مصر إسكندرية الصحراوي لم تنقطع الاتصالات لتسأل عن العزاء وأرقام أبناء جلال عامر لتعزيتهم.. يتصل عادل إمام بعمر طاهر ويسأله عن العزاء الذي سيقام في القاهرة، والذي سمع عنه، ويحزن لأن الأمر لن يتم، وأنه لن يستطيع حضور عزاء "رجل عظيم".
يكتب عم جلال: "نحن ديمقراطيون جدا.. تبدأ مناقشاتنا بتبادل الآراء فى السياسة والاقتصاد وتنتهي بتبادل الآراء فى الأم والأب".
نصل للإسكندرية، ونرى الزحام الذي يحيط بمسجد القائد إبراهيم وقد وقف محبي جلال عامر في سلاسل بشرية تحيط بمكان العزاء وهم يحملون لافتات تحمل مقولات فيلسوف البسطاء وأمير الساخرين جلال عامر. أهتز للمشهد وأتسمر في مكاني، ويهرول عليهم عمر طاهر وهو يصافحهم جميعاً ويعزيهم ويبادلونه العزاء، حيث شعر الجميع أن والدهم مات.
يكتب عم جلال : "الملكية العامة فى بلادنا مثل الدنيا.. نظريا «كلنا لها»، لكن عمليا «ماحدش واخد منها حاجة»".
ندخل ونصافح الجميع. نجلس حزانى. يوجعنا أن كثيرين ممن ظننا أنهم سيأتون حبوًا لتقديم واجب العزاء في الرجل لم يأتوا أصلاً، واكتفوا بالظهور في التليفزيونات والفضائيات ليتحدثوا عن ذكرياتهم معه، بينما أكد لي رامي أن معظمهم لم يجلس أصلاً مع والده يوماً أو يطيقه.
يكتب عم جلال: "فى بلادنا السياسة تحمى تجاوزات الأمن والأمن يحمى تجاوزات السياسة، لنحصل على المواطن «الساندوتش» المحصور بين السياسة والأمن".
لا ينتهي عزاء عم جلال دون "خناقة" و"إفيه"..
أما "الخناقة" فهي خناقة الناس الذين هتفوا "يسقط يسقط حكم العسكر" في وجه ضباط وعمداء ولواءات من المنطقة الشمالية العسكرية جاؤوا ليقدموا واجب العزاء في الرجل، وأما "الإفيه" حين حضر د.عبد المنعم أبو الفتوح، وكان المرشح الرئاسي الوحيد الذي حضر العزاء، فإذا بأحدهم يأتي إليه ويصافحه بحفاوة وهو يقول له : نورتنا والله يا أستاذ منير.. مش الأستاذ منير عامر برضه؟!، وكان يقصد الكاتب الصحفي الكبير: منير عامر.
يكتب عم جلال: "حقوق الإنسان: هو حق المواطن في ألا يتم إهانته إلا تحت إشراف ضابط".
فيما بعد سيتاجر كثيرون بجلال عامر وأولهم هؤلاء الذين زوروا كتبه غير مراعين أنها مصدر دخل أسرته من بعده، وأنهم يسرقون بذلك حقوق أبنائه الذين يحفظون سيرته، ويفخر الجميع بأنهم "خِلفة" جلال عامر العظيم.
يكتب عم جلال : "إوعى تشك فى مصر حتى لو سهرتْ برة البيت".
في اليوم التالي لوفاته تصدر جريدة "التحرير" مانشيت رئيسي عن وفاة الرجل كان مكتوباً به: "رحل الساخر.. وبقيت المسخرة"،
في مصر يا عم جلال الثورة مزبهلة.. والمسخرة مستمرة.
يكتب عم جلال: "فى بلادنا الكراهية تجمع والحب يفرق، وانظر إلى الملايين الذين تجمعوا على كراهية مبارك ثم تفرقوا أحزاباً أمام حب الوطن".
الله يرحمك يا عم جلال
الفاتحة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.