داخل منتجع هادئ قرب الحدود مع كندا، وعلى «أرض الجرانيت»، اجتمع ممثلو 44 دولة من كل بقاع الأرض، فى «بريتون وودز» إحدى مدن ولاية نيوهامبشير الأمريكية، ليتبادلوا أفكارهم النبيلة لمنع تكرار أزمات العالم الاقتصادية، خاصة المتعلقة بالنقود وسعر صرف العملات، ومساعدة الدول «المتعثرة» على العودة إلى مستويات النمو الاقتصادى، كان ذلك فى عام 1945، بعد عام واحد من انتهاء الحرب العالمية الثانية التى راح ضحيتها نحو 60 مليون شخص ما بين مدنى وعسكرى، بالإضافة إلى ملايين الجرحى والمشوهين، وأيضاً خراب اقتصاديات عشرات الدول معظمها فى أوروبا. بعد جلسات استمرت 21 يوماً متتالية، بدأت فى أول يوليو، أثمر اجتماع «بريتون وودز» عن تأسيس كيانين دوليين هما «البنك الدولى»، و«صندوق النقد الدولى» الذى يسعى، وفق اتفاقية تأسيسه المنشورة على موقعه الرسمى، إلى تحقيق 6 أهداف، هى بالترتيب: «تهيئة الوسائل اللازمة للتشاور والتعاون لحل مشاكل العملات النقدية الدولية، وتيسير وسائل التوسع فى التجارة الدولية، والعمل على تحقيق الاستقرار فى أسعار صرف العملات بين الأعضاء مع تجنب المنافسة فى تخفيض قيم العملات، والعمل على التخلص من القيود المفروضة على المبادلات النقدية التى تعرقل التجارة العالمية، وإتاحة موارد الصندوق بصفة مؤقتة للدول الأعضاء لتصحيح الاختلالات التى تعانى منها فى موازين المدفوعات مع اتخاذ الضمانات اللازمة، وأخيراً تقصير أمد اختلالات موازين المدفوعات الدولية، والتقليل من حدتها»، كل هذا «كلام جميل وكلام موزون.. ماقدرش أقول حاجة عنه»، لكنى أستطيع القول بكل ثقة إن صندوق النقد الدولى «انحرف» عن هذه الأهداف النبيلة وتحديداً مع بدء الحرب الباردة بين قطبى العالم الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدةالأمريكية، والأخيرة هى المساهم الأكبر فى حصص صندوق النقد من بين الدول الأعضاء بنسبة 17% من إجمالى مساهمات نحو 190 دولة حول العالم. وبمرور الوقت «والأزمات»، تحول صندوق النقد الدولى إلى «سوط» للرأسمالية العالمية المتوحشة، ضغوطه تسبق شروطه، وإجراءاته الاجتماعية «الخطرة»، تسبق قروضه، فلم تنجُ دولة لجأت إلى الاقتراض من صندوق النقد من تذوق مرارات إصلاحاته المشروطة، التى أصبحت محفوظة عن ظهر قلب، وأهمها: «تحرير أسعار العملات والسلع والخدمات وإلغاء دعم الدولة، وتقليص أجور الموظفين، ووقف التعيينات فى القطاعات الحكومية». السيناريو المقبل فى مصر أو فى أى دولة تضع نفسها «تحت ضرس» هذا الصندوق، سيكون مؤلماً لجميع الأطراف، فالصندوق الذى وصلت بعثته منذ ساعات إلى القاهرة لبدء التفاوض حول قرض ال12 مليار دولار على 3 سنوات، كما أعلن الدكتور عمرو الجارحى وزير المالية، أظنه وراء إقناع القيادة السياسية بضرورة الاقتراض من المؤسسات الدولية، ولن يعطيك دولاراً واحداً قبل بدء التطبيق العملى لشروطه، وبالتالى رفع أسعار فواتير الكهرباء والمياه والغاز، وهو ما سيبدأ من نهاية يوليو الحالى، حسب التصريحات الرسمية، وأيضاً تنفيذ قانون الخدمة المدنية الذى يرفضه حوالى 4 ملايين موظف وفرض ضرائب جديدة من خلال أقرار قانون القيمة المضافة. ومع ثبات الأجور وربما تخفيضها، مع زيادة الأسعار، ستعانى الأسواق من ركود عظيم.. وهو ما سيؤثر سلباً على القوى الإنتاجية وأصحاب رؤوس الأموال.. لتجد الحكومة نفسها فى نفق مظلم.