العباسية التى كانت ميدانا للنار لخمسة أيام متتالية، عاد الهدوء إلى شوارعها أمس، ودخل الحزن بيوت أسر الشهداء الذين راحوا ضحية الأحداث من أبناء المنطقة، دون أن يكون لهم «ناقة ولا جمل» فى الاشتباكات التى أودت بحياتهم. معتصمو وزارة الدفاع كانوا يطالبون بتسليم السلطة، وجهات أخرى، لم يعرف أحد هويتها حتى الآن، حركت ميليشيات البلطجة، ثم وقعت المذبحة، وفى عز رحاها التزمت قوات الأمن بحياد «مشبوه»، ليقع معتصمون وأبرياء من شباب منطقة العباسية ضحايا للبلطجة. «الوطن» التقت أسرتى شهيدين من شهداء منطقة العباسية، اللذين لم يكونا طرفاً فى الاشتباكات، لكن نارها طالتهما، وأزهقت أرواحهما لتختلط دماؤهم بدماء المطالبين بإنهاء حكم المجلس العسكرى. «وضعت له الغداء، أكل، وقبل أن ينزل باس قدمى، قلت له ربنا يخليك يا مصطفى ويجبر بخاطرك يا ابنى، فرد على: أبوسك تانى علشان ربنا يخلينى». بتلك الكلمات تتذكر الحاجة جمالات، والدة الشهيد مصطفى إسماعيل حسين (26سنة) آخر موقف جمعها بابنها. قالت ودموعها تنهمر، ويداها تحمل صوره: «ابنى مش بلطجى، شوف صورته مع خطيبته، بذمتك ده بلطجى، منهم لله اللى حرمونى من ابنى .....». أسرة الشهيد تسكن فى شقة صغيرة فى الدور الأخير فى أحد شوارع العباسية الضيقة، تجلس الحاجة جمالات على سرير ابنها المتوفى، مرتدية ثوبا أسود، لا يتوقف نحيبها على فلذة كبدها، ولا يتوقف لسانها عن ذكر مواقف وحكايات عن ابنها. تقول: «مصطفى كان بينام فى الطرقة قدام أوضتى، وأنا محجوزة فى المستشفى، بعد إجراء عملية القلب، أقول له قوم روّح يا مصطفى أنا بقيت كويسة يقول لى: «هروّح معاكى، بس شدى حيلك انتى». وتحكى السيدة ذات القلب المريض والصراخ المكبوت وهى تحاول التماسك، لكن الدموع تكشف ضعفها وحزنها على فقيدها «فى نص الليل رن جرس التليفون ردت أخته، المتصل قال لها أخوكى فى المستشفى، صحيت من النوم على صراخها، يا ماما أخويا فى مستشفى دار الشفاء، نزلنا نجرى»، وتستكمل والدة مصطفى: «بمجرد وصولنا وجدت شقيقيه إسلام وحسين يبكيان، فعرفت أن مصطفى هو المصاب، ولم أعرف أنه مات إلا بعد الفجر، الدكتور قال ابنك مضروب رصاصتين فى الرأس، وشفت مصطفى وهو غارق فى دمه». تصمت الأم برهة ثم تضيف: «والله مصطفى مش بلطجى ولا مجرم»، ثم تنخرط فى بكاء شديد وتقول: «ما لحقشى يفرح بحب سبع سنين» تقصد لن يتزوج من خطيبته التى أحبها سبع سنوات. ويقول أسامة الكردى الصديق المقرب لمصطفى ورفيقه فى رحلة الوفاة: «كنا جالسين هنا أمام البيت وفجأة تصاعدت الأحداث ودخل المعتصمون إلى الشارع، قمنا نتابع اللى جرى، اشتد ضرب النار، وكان نصيب مصطفى رصاصتين» ويضيف باكيا: «مصطفى كان صاحب صاحبه، وينصر الحق ولا أنسى مواقفه معى، ربنا يرحمك يا صاحبى ويجعلك من الشهداء». وتحدث باسم محمد، صديق مصطفى منتقدا الاعلام بشدة، الذى وصف الشهداء ب «البلطجية»، وقال: «إحنا مالناش علاقة بالسياسة، من قريب أو بعيد، ولم نخرج إلى ميدان العباسية، لا للاعتصام ولا للتظاهر، مصطفى حاصل على بكالوريوس سياحة وفنادق ولا يمكن يكون بلطجى، واهتمامه كان بعمله وأمه وإخوته فقط». رأفت رضا نبيل بدران، الشهير ب «قطة»، شاب لم يتجاوز العشرين عاما، كان يدرس فى الصف الثالث الثانوى، فى مدرسة العباسية، أخ أصغر لثلاثة أشقاء، ويؤكد تقرير الطب الشرعى عن وفاته أنه أصيب بطلق نارى فى الرأس، هو أحد ضحايا اشتباكات العباسة أيضا لكنه لم يكن أحد المعتصمين، بل أحد سكان المنطقة التى كانت مسرحا للعمليات. وبانكسار شديد يقول رضا نبيل والد «قطة»: «جاءنى تليفون فى الثالثة صباحا، إن ابنى ضربوه بالرصاص الحى ومات، وانتقل لمستشفى دار الشفاء، فذهبت إلى المستشفى، وأثناء تواجدنا أمام المستشفى حدث اعتداء علينا بضرب النار، ولجأنا للاحتماء بالمستشفى فأغلقوا بابها، حتى أثناء سيرنا بالجنازة ضربوا علينا نار». ويضيف الأب المكلوم: «ابنى كان محبوب من الناس كلها، والجنازة كانت مشهد مهيب وشارك فيها أهالى العباسية كلهم». وحمل والد رأفت، أنصار حازم أبو إسماعيل، مسئولية ما حدث، والجيش والشرطة أيضا، «لأنهم تخاذلوا عن حماية أهل العباسية»، وقال: «حق العباسية هتعرف تجيبه إزاى»، و«دم قطة مش هيروح هدر». ويقول عمه «أبو كريم»: «قتلوه وجرجروه على الأرض ورموه أمام البنزينة»، وتساءل «أى دين يسمح بقتل الأبرياء؟ نحن لم نخرج من بيوتنا وفوجئنا بمن يحملون السلاح فى الشارع ويشتمون النساء فى البلكونات والشرفات ويرهيبونهم بطلقات الرصاص والليزر ويضربون الخرطوش علينا، وإذا كان هناك اعتداء على المعتصمين فى الميدان فما ذنبنا نحن أن نهاجم فى بيوتنا، وبانفعال شديد يصرخ فى وسط العزاء قائلا: « قطة يموت ليه؟» ويتفق عدد من المعزين الذين وجدوا فى سرادق لتلقى العزاء فى وفاة رأفت فى شارع السوق فى ميدان العباسية، على اتهام الإعلام بأنه متحامل عليهم، وتساءلوا لماذا يتهم أهالى العباسية بالبلطجة؟ وقالوا إن البلطجية هم الذين دخلوا المنطقة بالسلاح، محاولين استفزازهم بهتافات «انزلى يا عباسية، يا......»، «العباسية بلطجية» و«رجالة العباسية فين، هى قلبت حريم ولا إيه؟» ويحكى «أبو كريم» قائلا: «إحنا كنا بنموت، واستعنا بمأمور قسم الوايلى لوقف الاشتباكات فرفض، وقال ماعنديش أوامر، وكذلك رجال الجيش الذين نزلوا بالمدرعات والدبابات لحماية القسم وأكاديمية الشرطة والكاتدرائية ووزارة الدفاع بس، ومحاولوش يوقفوا نزيف الدماء، أكثر من 15 دبابة ومدرعة موجودة فى المنطقة ولم تتحرك دبابة واحدة لوقف الاشتباكات».