الكون كله عابد وخاضع وذاكر لربه، والصيام أقدم فريضة عرفتها الإنسانية، وقد أمر الله تعالى آدم بأن يأكل ثمار الجنة جميعاً إلا شجرة واحدة ينبغى أن يصوم ويمتنع عنها، لكنّ الشيطان خدعه، فغلبته شهوته العارضة، فعُوقب بالنزول من الجنة، واشترط المولى سبحانه عليه وعلى بنيه إذا أرادوا العودة إلى الجنة مرة أخرى والقرب من الله والنظر إليه أن يعبدوه وحده وألا يشركوا به شيئاً، وأن يطيعوا الأنبياء، ويتوبوا إذا عصوا. ومن صور هذه العبادة المهمة «الصيام»، فهذا داود النبى الكريم الذى حكى شقيقه «محمد»، عليهما السلام، عن صيامه «عليك بصيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً»، وقد رأيت كثيراً من الصالحين يصومون هذا الصيام، وظل بعضهم محافظاً على ذلك قرابة عشرين عاماً، وكان بعضهم يصوم هذا الصيام فى شبابه ويتركه حينما يكبر، أو يصومه فى فراغه، ويتركه بعد ذلك إذا انشغلت أوقاته وكثرت مشاغله. وقد ظل بعض أصدقائى ومنهم المرحوم عصام دربالة، يفعل ذلك لسنوات طويلة. وكان لى صديق اسمه الشيخ على عبدالنعيم، صام أكثر من عشرين عاماً متواصلة صيام داود، يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويقطع الضاحية يوماً ويرتاح آخر، وكان يحفظ القرآن كاملاً ويراجعه على نفسه كل أسبوع، وكنت أعجب لحاله، ولا أدرى حاله اليوم، وقد قارب على الستين. لكن الاستمرار على هذا الصيام صعب وشاق، وقد خفّف الله عن أمة «محمد»، فجعل الصوم شهراً واحداً كفريضة، أما المندوب فهو ثلاثة أيام من كل شهر، أو صيام الاثنين والخميس. ويروى فى الأناجيل عن «داود»، عليه السلام، قوله «أذللت بالصوم نفسى» أو «أبكيت بالصوم نفسى، وركبتاى ارتعشتا من الصوم». وقد رأيت ذلك عملياً فى كل الذين صاموا هذا الصيام حتى لعشر سنوات فقط، فكيف ب«داود»، عليه السلام، الذى واظب على ذلك طوال عمره، وقد ورد فى الأناجيل صوم دانيال النبى، وصوم حزقيال النبى. وقد أورد القرآن قصة صيام مريم، عليها السلام، عن الكلام «إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا»، وصوم الطعام أسهل منه، ومن باب أولى أنها كانت تصومه وإلا لما تأهلت لهذه المكانة العظيمة التى بوأها الله إياها. وكان زكريا عليه السلام معروفاً بالصوم والذكر والدعاء، لكن القرآن تحدث فقط عن صومه عن الكلام حينما جاءته البشرى ب«يحيى»: «قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّىَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً». وقد تحدثت الأناجيل عن صوم الحواريين «وفيما هم يخدمون الرب يصومون». وتحدث عن صوم بطرس، وهو المصرى الوحيد من الحواريين «إنه كان صائماً حتى جاع كثيراً واشتهى أن يأكل». وتحدث عن بولس الرسول «كان يخدم الرب فى أتعاب وأسهار وأصوام، وقد صام ومعه برنابا». ويُعدّ الصوم أكبر عامل لكسر شهوة الفرج المحرّمة عند الشباب، وذلك لمن لم يستطع الزواج ويصدق هذا قول النبى الكريم، صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»، أى وقاية من الشهوة، وهذا الحديث تصدقه الأناجيل، ففى إنجيل متى «هذا الجنس -أى الشهوة المحرّمة- لا يخرج بشىء إلا بالصلاة والصيام». وكان الصيام عند اليهود أيضاً، وقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم، المدينة فوجد يهود المدينة يصومون يوم «عاشوراء»، احتفالاً واحتفاءً وشكراً لله لنجاة نبيهم العظيم «موسى»، عليه السلام، وقد أقر النبى، صلى الله عليه وسلم، هذا الصيام، وزاد عليهم «صيام تاسوعاء». وكان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يصوم حتى يظن بعض أصحابه أنه لا يفطر، ويفطر حتى يظنوا أنه لا يصوم، فكان يلبس لكل حال لبوسه، ويعيش حاله وزمانه، ويدور مع مراد الله حيث أراده. أما الحيوانات فلها حظ من الصوم أيضاً، فالأسد يصوم 48 يوماً فى السنة، أى يصوم يوماً من كل أسبوع، وهذا يحفظ بدنه من التسمُّم بالبولينا، لأنه يأكل اللحوم فقط، أما أسماك السالمون فتصوم خلال رحلتها التى تبلغ 600 كم من البحر المتوسط وحتى البحر الكاريبى فى أمريكا. أما الدب، فيصوم عدة أشهر عندما يكسو الجليد الأرض، حيث لا يجد شيئاً يأكله، أما الكلب فيصوم لمدة تصل إلى 20 يوماً إذا أصيب بكسر فى ساقه. أما البط البرى والأوز العراقى فتهاجر أسرابه وتقطع آلاف الكيلومترات، وهى صائمة لتصل من الشمال إلى الجنوب، حيث الدفء والطعام. أما الهدهد والبلبل والكروان، فيصوم إذا حُبس فى القفص، وقد يستمر فى ذلك حتى يموت. أما طائر البطريق، فيظل صائماً منذ أن يضع البيض لكى لا يترك بيضه ويقوم بتدفئته حتى يفقس بسبب الثلوج. أما دودة القز فتصوم عدة مرات أثناء نموها وتُغيّر جلدها 5 مرات وتصوم ثلاثين يوماً لتنتج حريراً طوله 1200م. أما القنفذ فيصوم شهراً فى جحره. هكذا يصوم الكون كله خشوعاً وخضوعاً وتذلُّلاً وحباً وإنابةً واستسلاماً للخالق العظيم سبحانه، فترى من ذا الذى يجرؤ على الإعراض عن ربه ومولاه وخالقه الحق؟!