أتذكر أنه حين تم انتخاب الرئيس فيشر الحالى رئيساً للجمهورية النمساوية، وفى أول خطاب له، ذكر ضمن حديثه أنه سيبقى فى منزله فى الحى نفسه وفى العمارة نفسها التى يسكن فيها منذ عمر طويل، العمارة تحتها سوبر ماركت عادى وتقع فى شارع عام يسير فيه ترام وسيارات ومشاة ويركن أى إنسان سيارته فى الأماكن المخصصة لها تحت سكنه فى أى وقت، ويسكن فى عمارته سكان عاديون أيضاً؛ وهذا شىء عادى جدا! رأيت الرئيس فيشر مراراً سائراً على قدميه من بيته حتى مبنى البرلمان، فبيننا شارع واحد، وهو طريقى فى كثير من الأحيان للمقهى المفضل لى فى الحى الثامن، وبالطبع يلتقى فى طريقه بالناس فى الشارع فيسلم عليهم ويقف ليحادثهم؛ وهذا شىء عادى جدا! * هنا يجلس العامل والموظف والكاتب والفنان والوزير والخفير والرئيس والطالب والمدرس فى المقاهى والمطاعم العامة نفسها، وكل منهم يدفع حسابه عن نفسه حتى ولو كان رئيساً للجمهورية، هؤلاء المشاهير أو «الدبلوماسيون» لا يقلقون الناس بوجودهم ولا يضايقهم الناس، وهؤلاء الرؤساء والوزراء ومشاهير الفنانين والفنانات ليس حولهم «بودى جارد» لا حول الله؛ وهذا شىء عادى جدا! * حين ذكر الرئيس ضمن خطابه أنه سيبقى فى بيته فى شارع كذا رقم كذا، ذهبَت فى اليوم التالى إلى بيته سيدة نمساوية، ضغطت على جرس البوابة أسفل العمارة، ففتحت لها قرينة الرئيس، صعدت وقدمت لها شكوى مكتوبة، أخذتها منها ووعدتها بتوصيلها للرئيس. وخشية من تكرار الأمر وإقلاق الرئيس فى سكنه الخاص، عينوا شخصاً فى زى مدنى دون سلاح أمام بوابة البيت لفترة قصيرة، حتى نسى المتطفلون أين يسكن الرئيس! * جمعتنى بالرئيس النمساوى مناسبات كثيرة لا تسمح مساحة المقال بذكرها، أهمها حين دعانى ضمن ستة أدباء نمساويين للغداء معه فى القصر الجمهورى، وحينما علمت منه يومها بسفره لمصر مازحته قائلاً: «مصر! الله.. ما أجملها! لا أعرفها، ليتك تصطحبنى معك!» جاءنى بعد أسابيع قليلة اتصال من القصر الجمهورى أن الرئيس سيصطحبنى معه لمصر ضمن الوفد الثقافى الرسمى، سافرت معه لمصر وكان قد استأجر طائرة من الخطوط الجوية النمساوية، فالرئيس هنا ليس لديه طائرة خاصة! * حين عينتنى جمهورية النمسا فى عام 2008 كسفير ثقافى فخرى للنمسا فى عام الحوار الثقافى العالمى، مع مجموعة من الأدباء والفنانين، أقيم لنا احتفال فى إحدى القاعات فى فيينا، حضره الرئيس وقرينته وجلسا فى الصف العشرين، قال يومها إن من نحتفل بهن وبهم اليوم هم من يحق لهم الجلوس فى الصف الأول! * أتذكر حكايات كثيرة معه سواء فى النمسا أو فى رحلة مصر بين الإسكندرية والقاهرة، أتذكر هذا وأنا أشاهد انتخابات الرئاسة الحالية، وأتوقع أننى سأرى الرئيس الجديد وهو يعلو منصبه ناسياً كثيراً من الوعود التى وعد الناس بها، أتوقع كيف سيبتعد تدريجياً عن العامة بحجة الاهتمام بالخاصة وبالأمور الخاصة، أتوقع فرعنة الناس له وقبوله الفرعنة! * الرئيس هنا فى النمسا يعرف أن فترته محدودة، ولو جُددت فستكون لفترة رئاسية ثانية لا أكثر، يغادر بعدها المنصب ويعود مواطناً عادياً وسط الناس ويحمل بكل فخر لقب «الرئيس السابق» وهو لقب محترم فى هذه البلاد. والناس هنا لا يرون فيما يفعله الرئيس النمساوى تواضعاً أو تنازلاً أو حتى كرماً، فما يفعله هو المعتاد والطبيعى وما توقعوه منه حينما انتخبوه، وهو أيضاً ما لن يحيد عنه كما وعدهم، وهذا شىء عادى جدا!