قرية أبورجوان بحرى - مركز البدرشين، مسافة طويلة من القاهرة إلى هناك تقطعها السيارة فى ساعتين ونصف، يضبط سائقها الراديو على إذاعة غنائية فيفاجأ بمذيع الفترة الصباحية يستهل بدعاء «اللهم نسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه ونعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما فيه».. ضحك السائق «ولا بد عن يوم محتوم تترد فيه المظالم».. ويمضى فى طريقه إلى بيت «الرجل الرابع» على منصة الحكم التاريخى فى محاكمة أقل ما توصف به أنها «محاكمة القرن». بعد أذان الفجر وقبل الخامسة صباحاً كانت «الوطن» فى منزل أمين سر محكمة مبارك، سعيد عبدالستار، منذ أن استيقظ وزوجته تلازمه فى محاولة لإقناعه بالإفطار «مش قادر أفطر هاشرب شاى بس».. تقاطعه «حرام عليك نفسك ياخويا انت ما نمتش ساعتين على بعض أنا حاسة بيك كل شوية تقلق وتصحى من النوم» قالتها الزوجة تحاول إقناع زوجها بتناول أى لقمة «إن شاالله حتة كيك».. لم تخف الابتسامة، التى لم تغب عن وجه الزوجة عبير، حالة القلق والتوتر التى تلازمها منذ ليلة أمس الأول، تحمل صغيرها الوحيد أحمد -جه بعد شوقة 15 سنة من غير خلفة و4 عمليات حقن مجهرى- وتناديه «يا حسن اسمع الكلام وافطر عشان خاطرى».. يبتسم سعيد ويوضح «حسن ده اسمى فى البيت وسعيد ده اسمى الحقيقى». فى المنزل الصغير اجتمعت أسرة سعيد، ليس الزوجة والابن فحسب، بل الإخوة -4 ذكور و3 بنات- الكل اجتمع على السهر، وقرر الإخوة أن يرافقوا شقيقهم فى رحلة العدل، لكنه رفض فقرروا أن يحصلوه بالسيارات، حتى يكونوا معه تحسباً لأى موقف قد يتعرض له بسبب الحكم. مستندات القضية وأوراقها تتوسط أرضية «الطرقة» فى مدخل حجرة الصالون لتسدها تماماً، قضى سعيد ليلتين قبل المحاكمة فى إعدادها وترتيبها «الحكم ما شفتوش لسة القاضى محتفظ به هاطلع عليه قبل الجلسة مباشرة». «سيارة الحراسة وصلت يا حسن»، سيارة شرطة خاصة تضم حارسين شخصيين فى زى مدنى، لم يحددا تبعيتهما للجيش أم للشرطة، رغم أن لوحة السيارة تتبع الشرطة، تودع عبير زوجها «لا إله إلا الله».. ولا تسمع صوته وهو يرد عليها «محمد رسول الله». الأنفاس محبوسة وقت عصيب وثوانٍ تمر ساعات، تتلى الأسماء فى قاعة المحكمة فى بث مباشر على شاشات التليفزيون وتتوالى الآيات القرآنية فى صالة المنزل، ومعها دعاء عبير وأشقاء سعيد أن تمر الدقائق المقبلة بسلام «عنينا متشعلقة على التليفزيون بندور على سعيد ربنا يكملها على خير». «ماتقلقيش يا خالتى أنا قريت قرآن وإن شاء الله ربنا هيحميه». توتر عبير يزداد لا تملك حياله إلا الدعوات، أحمد ابنها وآية -ابنة شقيق زوجها- وشقيقتها سحر يتوليان التخفيف عنها بالبقاء لحظات بين أحضانها. الأحكام: «بسم الله الرحمن الرحيم الحق العدل.. حكمت المحكمة حضورياً لجميع المتهمين...» زغرودة انطلقت من سحر أخت عبير لتهز المنزل، الأطفال تتنطط والإخوة يتبادلون الأحضان، تدمع العيون بعد النطق بالحكم، «الحمدلله.. الحمد لله» أهالى الحى بدأوا فى التوافد على المنزل بعد انتهاء المحاكمة مباشرة فى انتظار الاطمئنان على خروج سعيد سالماً من القاعة بعد اندلاع مشادات المحامين المعترضين على الحكم.. تتصل عبير به لا يزال تليفونه مغلقاً «هى عادته ولا هيشتريها» دائماً يغلق تليفونه فى الجلسات.. تقترب من شاشة التليفزيون لتبحث عنه بين الجموع داخل القاعة يدها على الهاتف يأتيها الرد «الهاتف الذى طلبته ربما يكون مغلقاً» ترجع مرة أخرى إلى توترها وتبدأ دموعها فى الانهمار «يارب والنبى استرها ده انا وابنه مالناش غيره». يرن هاتفها المحمول «ألو.. عامل إيه يا أبوأحمد.. طيب الحمدلله.. هتتأخر يعنى.. ماشى.. خد بالك من نفسك يا أخويا» تنفرج أساريرها وترتمى لترتاح أخيراً على أقرب كرسى «خلاص يا جماعة اطمنوا إن شاء الله كلها ساعتين ويبقى معانا».