ساحة فارغة على غير عادتها، لطالما امتلأت فى مثل هذا الوقت من الأعوام السابقة بأشخاص من مختلف الجنسيات يقفون على أهبة الاستعداد، ويتزاحمون للدخول إلى أعظم متاحف العالم بلا استثناء.. يقف شاب أربعينى فى بهو المتحف المصرى الخالى بسترة فاخرة، منتظراً «زبائنه».. استعد منذ أيام للعمل الذى أصبح نادراً فى الوقت الحالى، رنّ تليفونه المحمول الذى داوم على الصمت طوال الأشهر الماضية: «فيه جروب، حضّر نفسك»، قالها له صاحب شركة السياحة التى يعمل لحسابها بتعالٍ.. الأيام دول، مهنته أُصيبت فى مقتل.. «السياحة تمرض ولا تموت» عبارة سمعها كثيراً، يؤمن الآن أنها خاطئة تماماً بعد أن دخلت وظيفته مرحلة «الموت إكلينيكياً». «إحنا بيوتنا اتخربت»، يبدأ محمد فتحى، الذى يعمل مرشداً سياحياً حديثه، يتذكر الشاب يومياته المشرقة، ففى زمن ولى كان يعمل لمدة 200 يوم بالعام الواحد.. «كنا بنتنِّك على الشُغل، ودلوقتى بالعافية بشتغل 12 يوم فى السنة كلها»، يصف الرجل الوضع الحالى ب«المأساة»؛ فالقطاع الذى يعمل به أصابه ضرر شديد «كان بيخُش لمصر 14 مليون سائح فى العام بيصرفوا حوالى 1.5 مليار دولار فى الشهر الواحد، دلوقتى مفيش فى مصر كلها 100 ألف سائح». توالت الأيام وجاءت أحداث السفارة الإسرائيلية، أذاعت الوكالات العالمية، التى يسيطر عليها اليهود، كما يؤكد محمد، مشهد أحداث العنف والاقتحام، الأمر الذى أعطى انطباعاً بعدم قدرة مصر على حماية السفارات، قلّت الوفود القادمة إلى مصر بنسبة 20% -حسب قوله- لكن «الدنيا كانت ماشية». الانفلات الأمنى هو كلمة السر التى يعوِّل عليها الشاب، «الأمن والسياحة وجهان لعملة واحدة» كما يقول؛ ففوضى السلاح المنتشر فى المجتمع وعدم قدرة الأمن على إحكام السيطرة أدَّيا إلى انتشار فكرة «مصر مش آمنة»، ما أسهم فى تردى الأوضاع السياحية فى مصر. «أنا لما بطلع الهرم مع الزبون لازم تبقى عينى فى وسط راسى»، يقول المرشد السياحى الذى يصف مشهداً متكرراً باستمرار مع سائحى أهم المناطق الأثرية فى مصر». ويضيف: «أول لما بوصل شارع الهرم، خصوصاً عند مشعل، يبتدى الناس اللى هناك يقفوا قدّام العربية عشان يشتغلوا على الزبون»، منطقة الأهرامات أصبحت «كابوساً» يخيم على صدر محمد، الباعة الجائلون المنتشرون هناك ومجموعات «الخرتية» المهولة والبلطجية الذين انتشروا بطول وعرض المنطقة التى تحتوى على أقدم عجائب الدنيا السبع يسبّبون الرعب للزبائن «بيجبروا السائح إنه يشترى غصب عنه، وساعات بيسرقوه بالإكراه أو بينشلوه، ومفيش ولا عسكرى فى المنطقة كلها». «دى أصنام ولازم نهدمها»، كلمات أطلقها شيخ مأفون -على حسب وصف محمد فتحى- فالتصريحات التى يصدرها «عم سيد بواب العمارة» تجد صدى فى جميع وسائل الإعلام العالمية؛ فاهتمام العالم بالشأن الداخلى المصرى يجعلهم ينقلون «كل شاردة وواردة، خصوصاً لو ده بيضر باقتصاد مصر»، كما يقول «فتحى»، مؤكداً أن مثل هؤلاء الأشخاص الذين ينتمون بالخطأ إلى الإسلام يجب أن تُوجه إليهم اتهامات بالخيانة العظمى.. «فين بقى المسئولين اللى يعملوا كده؟ واحد جاهل بيتكلم باسم شعب مصر، وهو أساساً مالوش أى صفة، طب حتى يطلعوا يقولوا تصريحات ضد تصريحات الشيخ ده، هما ماتوا ولا إيه؟». رصاصة الرحمة التى أُطلقت على السياحة جاءت من الرئيس محمد مرسى عندما قام بإصدار «الإعلان الدستورى»؛ فأحداث العنف التى تلت إعلانه تسببت فى توقف حركة السياحة بنسبة تزيد على 90%، فنسب الإشغال فى فنادق مصر لا تتعدى ال10%: «عشان نخُش المتحف المصرى فى الوقت ده من السنة اللى فاتت كنا بنقف 3 ساعات عشان ندخل بس، دلوقتى شوف المتحف عامل إزاى».. تعهدات الرئيس التى قطعها على نفسه بخصوص تنمية القطاع السياحى، يرى «محمد» أنه غير قادر على الوفاء بها؛ فالرئيس مرسى «لم يحاول حتى الحفاظ على المكاسب السياحية التى حققتها مصر فى الأشهر التى تلت الثورة». تردى الأوضاع فى قطاع السياحة ينعكس بالسلب على الاقتصاد المصرى، كما يردد محمد: «السائح كان بييجى يحط الكارت فى الماكينة ويطلع 1000 جنيه مصرى مثلاً، وفى الوقت نفسه كان بيتحول لرصيد البنك المركزى فى الخارج نفس القيمة بس بالدولار، عملة صعبة بتخُش البلد على مدار 24 ساعة، دلوقتى مفيش». «أكثر من 5 ملايين شخص من العاملين بالسياحة بشكل مباشر أو غير مباشر انقطعت أرزاقهم»، يقول محمد فتحى الذى يعمل فى المجال السياحى منذ 18 عاماً؛ فصناعة السياحة لا تتوقف عند المرشدين السياحيين فقط، بل تتعدى ذلك «لبتوع اللحمة اللى بيوردوا للفنادق، والعمال اللى فى الفنادق والبازارات، والنحاتين وأصحاب الشركات»، القطاع الذى يعانى إهمال رئيس الجمهورية والحكومة الذى تسبب فى «خراب البيوت دى». القائمون على البلاد يصفهم المرشد السياحى، الذى يعول ثلاثة أبناء، ب«عدم القدرة على إدارة مجلس محلى»، فيؤكد «فتحى» أن الأمل ظل متأججاً حتى تم اختيار الرئيس محمد مرسى «المفروض البلد كانت تستقر، لكن الأوضاع بقت أسوأ»، مشيراً إلى أن 17 ألف مرشد سياحى مسجلين بالنقابة قام معظمهم ببيع سياراتهم الخاصة والمنازل التى يسكنون بها.. «إحنا كنا مدخلين ولادنا مدارس لغات، دلوقتى وديناهم مدارس حكومية ومش قادرين ندفع مصاريف الدروس».