تجرأت وعرضت فى برنامجى الطبى على قناة دريم فقرة فيديو عن الأعضاء المنقرضة التى فى جسم الإنسان والتى تدعم نظرية داروين، وما إن تمت إذاعة الفقرة حتى وصلتنى على تويتر والإيميل رسائل تكفير تتهمنى بدعم نظرية الزنديق داروين، ولكن من ضمن هذه الرسائل وصلتنى من صديق تويتراوى هذه الرسالة المشجعة عن أهمية نظرية داروين للعقل الإسلامى، تقول الرسالة: النظريات والكشوفات العلمية قد تكتسب أهميتها من النتائج المبشرة لها (اختراع الأنسولين مثلاً) وقد تكتسبها من التوابع والاستنتاجات العلمية والفلسفية الناتجة عنها، والكشوفات الكبرى التى ستبنى عليها ونظرية التطور من هذا النوع. قد لا يشكل موضوع تطور الطيور مثلاً عن أحد فصائل الديناصورات أهمية مباشرة للناس، ولكن فكرة تطور الكائنات عن طريق الانتخاب الطبيعى تعطينا تصوراً عن كيفية مواءمة أنفسنا مع الطبيعة المحيطة. بالنسبة للعالم العربى الذى يعانى من فقر معرفى رهيب فى النواحى العلمية، يكتسب تدريس هذه النظرية أهمية كبرى للأسباب التالية: . لا يوجد أساس منطقى للبيولوجيا الحديثة من غير نظرية التطور، كما قال العالم الأوكرانى، ثيودوس دوبجنسكى، فجميع الأبحاث فى مجال الأحياء اعتمدت -منذ عشرينات القرن الماضى- على نظريتى داروين ومندل. وجميع التجارب الطبية التى أجريت على الحيوانات كانت مبنية على أساس أننا نحن البشر نشترك فى أصل واحد معها، وأن خلايانا تتأثر بعوامل الطبيعة ثم تؤثر فى الأجيال اللاحقة لها. كل هذا البناء المعرفى مرتكز على الأحياء التطورية، والمسلمون محرومون من المساهمة فى هذا البناء إذا ما استمروا فى إنكار البديهيات العلمية. . القضية الثانية هى أن تدريس التطور يثبت أهمية المنهج العلمى -ساينتيفك ميثود- إذ إن عمل داروين بالتحديد تجلت فيه جميع مراحل البحث العلمى ووسائله على أتم وأدق صورة. من مشاهدة ومراقبة مديدة، إلى استقراء منطقى دقيق، إلى تجارب مكثفة، ثم انتهى إلى نظريته الشاملة، التى تم تعديلها على يد علماء لاحقين لتكون أكثر متانة. تثبيت نظرية التطور يعنى تثبيت المنهج العلمى، أى تثبيت الوسيلة الوحيدة التى قد تحقق ثورة معرفية فى العالم الإسلامى. وإذا استمررنا فى تجاهل نظرية التطور سنظل مأسورين بخرافات! . الأهمية الثالثة هى فى فصل الدين عن العلم -وهو مذهب فلاسفة الإسلام!- إذ إن فكرة الخلق من العدم ترجع لكتب علم الكلام والعقيدة، لكنها ليست فكرة علمية؛ لأنها ليست مبنية على شواهد وضعية. مجابهة علماء الدين بنظرية التطور ستجبرهم على مراجعة التراث الفكرى الإسلامى فى مجال الطبيعيات، وتاريخية النص وكيفية تأويله مع الواقع. أى أنه ستصبح هنالك إمكانية حقيقية لإعادة تفسير النص القرآنى بما يتناسب مع العقلية العلمية الحديثة، ساعتها سنعود لمبدأ ابن رشد العظيم وهو: «فإن أدى النظر البرهانى إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه فى الشرع أو عرف به. فإن كان مما قد سكت عنه فلا تعارض هنالك.. وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفاً. فإن كان موافقاً، فلا قول هنالك. وإن كان مخالفاً، طلب هنالك تأويله». . القضية الرابعة والأخيرة هى أهمية نظرية التطور فى إفادة البشرية، فما تفرع من نظرية التطور كثير جداً ووصل إلى جميع مجالات غير الأحياء، منها العلوم الطبية وعلم النفس والألسنيات وعلم الأعصاب والزراعة والإيكولوجيا. وهذه الأبحاث أفادتنا فى كيفية تطوير أغذية جديدة تناسب مناطق بيئية مختلفة، وفى اختراع العديد من اللقاحات التى أنقذت أعداداً غفيرة من الموت والمرض. فنظرية التطور ليست ترفاً معرفياً يمكننا تجاهله، بل هى أساسية فى تطوير معيشة الفرد البسيط. وختاماً، العلم كل لا يتجزأ، فإما أن تقبله بجميع توابعه ولوازمه المنطقية، وإما أن ترفضه وتعيش فى تخبط معرفى عميق، كما هو حاصل عندنا.