إذا كان من الشائع أن نقول إن النفس الإنسانية تمثل لغزاً كبيراً، كثيراً ما يحار فى تفسير أسرارها علماء وأطباء النفس أنفسهم.. فإن مرض «الفصام» هو لغز الألغاز وهو أغرب الأمراض العقلية التى تعكس تلك الحيرة.. فهو مرض ذو ألف وجه حيث يتعذر الإلمام بكل جوانبه نظراً للتباين فى أعراضه ودوافعه وأسبابه وجذوره وأشكاله وأنواعه.. بالإضافة إلى تداخل أعراضه مع أعراض أمراض نفسية وعقلية أخرى. ويؤكد «سيلفانو أريتى» -وهو حجة فى «الفصام» على مستوى العالم- فى كتابه الهام «الفصامى.. كيف نفهمه» إن شدة المعاناة العقلية التى تنشأ عن المرض تبلغ من الضراوة حداً يجعل المريض يقبل مقايضته بألم عضوى.. بل أحياناً يحدث الفصامى عامداً إصابة فى جسده أملاً فى تخفيف الألم العضوى الناتج عن ذلك بسبب قسوة الألم العقلى الذى تشتد حدته فى المرحلة الأولى من المرض، والذى تسبقه معاناة طويلة لا يلاحظها ولا يهتم بها أحد.. وهى معاناة قد تمتد منذ الطفولة المبكرة.. وأثناء تلك المرحلة الأولية وما يليها من مراحل.. يعانى المريض من الإحساس بالرعب الناتج عن تصوره لنفسه أنه مقطوع الصلة بالعالم.. غير قادر على فهم الآخرين ويبدو الآخرون أيضاً غير قادرين على فهمه.. إنه وحيد يشعر بالعزلة والغربة عن الواقع.. بالإضافة إلى قناعته بأن هناك قوى غامضة تحيط به وشروراً لا يعرف كنهها تتربص به.. أو بأن أناساً بعينهم يلاحقونه ليوقعوا به الأذى.. وما لم يشف أو يتحسن فإن قواه العقلية تتدهور ويفقد قدرته على التكيف مع الواقع والتواصل مع الناس.. والزمن بالنسبة له متوقف بلا حراك عند تلك الحالة من الدمار النفسى، لكن العوامل أو الأسباب التى تؤدى إلى ظهور المرض والتى يتفق عليها معظم الأطباء النفسيين هى العوامل البيولوجية التى تتعلق بالتكوين العضوى للمريض وربما تكون موروثة.. والعوامل السيكولوجية وهى الخبرات التى تكتسب فى الطفولة أو بعدها والتى تتعلق بالأسرة.. والعوامل الاجتماعية التى تتصل بالأحوال البيئية والطبقية التى ينتمى إليها المريض. وأنواع الفصام الشائعة هى «الفصام البارانويى».. «والهيفرينى.. والكتاتونى (التصلبى) والفصام البسيط.. ولعل أشهر نجوم «الفصام البارانويى».. هو الفنان التشكيلى الهولندى العظيم «فان جوخ» (1853 - 1890) الذى أبدع أكثر من (700) لوحة وما يزيد على ألف رسم.. وهو صاحب لوحة «آنية وزهور» المعروفة باسم «أزهار الخشخاش» عام (1886) التى سرقت من متحف محمد محمود خليل وزوجته (2011). «وفان جوخ» له مكانة عظيمة فى تاريخ الفن التشكيلى.. فهو الذى أنشأ المدرسة التعبيرية قبل أن تظهر فى ألمانيا.. التى تهتم بالتعبير عن أعماق الفنان وخفايا نفسه وما يعتمل فيها من صراعات عن طريق استخدام ضربات الفرشاة واتجاهات الخطوط والمساحات الملونة التى تعكس انفعالات الفنان الصاخبة والتى تضج بالحياة والحركة.. وتحتل أعماله مكاناً بارزاً فى متاحف العالم وتضطر الشرطة دائماً إلى التدخل لتنظيم حركة المرور أمام القاعة أو المتحف الذى يقيم عرضاً للوحاته؛ بسبب شدة تزاحم الناس وإقبالهم على مشاهدة لوحاته. فما طبيعة معاناة «فان جوخ» النفسية والعقلية؟!.. وأى غرابة فى سلوكه الفصامى الذى دفعه إلى قطع أذنه من أجل حبيبته؟!.. نتناول ذلك بالتفصيل فى الأسبوع القادم