قبيل وصوله إلى القاهرة أمس الأول، كانت كلماته قد وصلت إلى القاصى والدانى، وعندما وطئت قدماه أرض المطار، قال: «إن مصر قادت العالم العربى قروناً من الزمن فلا ينبغى أن يضيع أهلها هذا المجد بخلافات بينهم». كانت كلماته صادقة من القلب، لقد حدثنى الصديق السعودى خالد المجرش عن مضمون محاضرته القيمة التى حملت عنوان «فضائل مصر»، وأرسل إلىّ الصديق العزيز السفير أحمد القطان، سفير السعودية، بالنص الحرفى لخطبته التى هزت وجدان المصريين، أنها نوبة صحيان أطلقها إمام جامع البواردى بالرياض، الذى يعرف دور مصر وقدرها ربما أكبر بكثير من بعض أبنائها!! قال د.العريفى، من شاهد الأرض وأقطارها، والناس أنواعاً وأجناساً، ولا رأى مصر ولا أهلها، فما رأى الدنيا ولا الناس، هى أم البلاد، وهى أم المجاهدين، بلاد كريمة التربة، مؤنسة لذوى الغربة، فكم لمصر وأهلها من فضائل، ومزايا، وكم لها من تاريخ فى الإسلام وخفايا منذ أن وطئتها أقدام الأنبياء الطاهرين ومشت عليها أقدام المرسلين المكرمين والصحابة المجاهدين. هل رأيتم قدر مصر أيها المصريون، فى عبارات جاءت على لسان رجل صادق، مفتتحاً بها خطبته الشاملة، المدوية، والتى لا تزال آثارها تتردد بين أبناء الوطن فى الداخل والخارج. لم تكن خطبة فقط فى «فضائل مصر»، لكنها كانت منهاج عمل وخارطة طريق للخروج من الأزمة، وتذكرة بتاريخ مضى وواقع معايش، ومستقبل ينتظر المصريين جميعاً. انظروا لرؤية شيخنا الجليل، وهو يرد على دعاة التطرف والفتنة عندما راح يتكلم عن أقباط مصر، تحدث عن وصية رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون مصر، أحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحمة»، هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام، وهى أم إسماعيل جد النبى هى مصرية، وماريا سرية الرسول عليه الصلاة والسلام وأم ولده إبراهيم هى مصرية أيضاً. راح د.العريفى يذكرنا فى خطبته الشاملة الجامعة بتاريخنا النضالى، وكأنه يبث فينا الثقة فى الذات من جديد «الإسلام فيكم وجد أعياده، وكنتم يوم الفتح أجناده، وكنتم عام الرمادة مداده، وأحرقتم العدوان الثلاثى وأسياده، وحطمتم خط بارليف وعناده، وكنتم يوم العبور أسياده وقواده». كم هى عبارات رائعة، تجسد تاريخ الوطن، وتبعث برسائل متعددة، كأنها جرس إنذار لمن غابت عنهم الرؤية، وأسقطوا حسابات التاريخ، ونضال عقود طويلة من الزمن، فراحوا يعلنون الحرب على أنفسهم. .. هذا وطن يضرب بجذوره فى عمق التاريخ، هذه بلاد كرمها الله سبحانه وتعالى فى محكم كتابه الكريم، يقول الشيخ: «إن فى أرضكم الوادى المقدس طوى، فيها الجبل الذى كلم الله عليه موسى عليه السلام، وفيها الجبل الذى تجلى الله سبحانه إليه فانهد الجبل دكاً، فى أرضها يجرى النيل المبارك الذى ينبع أصله من الجنة، وفيها الربوة التى أوى إليها عيسى عليه السلام، وعلى أرض مصر ضرب موسى عليه السلام بعصاه فانفلق الحجر له ماء، وانشق البحر. إذا أردت القرآن وتجويده فالتفت إلى مصر، وإذا أردت اللغة والفصاحة فإنك تنتهى إلى مصر، وإذا أردت الأخلاق الحسنة وحلاوة اللسان وحلاوة التلاوة والقرآن، فالتفت لزاماً إلى مصر. .. هذا عن مصر، فماذا عن البشر يا شيخنا الجليل؟! «أهل مصر يكفيهم شرفاً وفخراً أن الله اختار فيهم الأنبياء، وجعلهم يسكنون بين ظهرانيهم، الخليل إبراهيم، يعقوب عليه السلام، يوسف عليه السلام، موسى وهارون عليهما السلام، يوشع بن نون، الخضر عليه السلام، أيوب وأشعيا وأرميا عليهم أفضل الصلاة والسلام، كلهم ولد أو دخل أو مات فى مصر. .. أهل مصر فيهم الأبطال، والإيمان، والكرم، والخلق القديم، ونساء مصر يكفيهن فخراً وعزاً أن سيد الأنبياء -محمد صلى الله عليه وسلم- كانت جدته هاجر مصرية وأم ولده مارية مصرية وأن ماء زمزم تفجر إكراماً لامرأة مصرية وابنها. لقد اختصر د.العريفى فى محاضرته تاريخ مصر وفضائل المصريين وراح يغوص فى أعماق الشخصية المصرية ليخرج أفضل ما فيها، وكأنه يريد أن يقول لنا جميعاً، كفاكم معارك وصراعات، فالوطن أكبر وأعظم من هذا الذى يجرى، وأنتم ستتحملون المسئولية أمام أنفسكم وأمام الأجيال المقبلة إن لم تحافظوا عليه. .. نعم، نفهم مغزى رسالتك يا شيخنا، نفهم مضمون ودلالات الكلمات التى تذكر بالفضائل والتاريخ المجيد، ولكن ما حيلتنا يا شيخنا، وقد صنعنا ثورة عظيمة، سالت فيها الدماء وسقط فيها الشهداء، وبدلاً من استخلاص العبر والسعى للملمة الصفوف، ورأب الصدع، إذا بنا أمام حرب ضروس اجتاحت كل المحرمات، الدستور والقانون، الثوابت والخطوط الحمراء، ثم كانت معركة تصفية الحسابات، التى أرادوا من ورائها الانتقام بديلاً للتسامح، والمعارك بديلاً للسلام!! صدقنى يا شيخنا، إن كلماتك قد هزت ضمائر الكثيرين، ذرفنا الدموع، نحن نشعر بعمق حبك، وإيمانك، ولهفتك على هذا الوطن، غير أننا نتمنى من الجميع أن يعى دلالتها، وأن يتعظ بنصائحها وأن يتوقف عن إدخال البلاد فى أتون حرب لن تبقى ولن تذر!! أهلاً بك يا شيخنا على أرض مصر، لقد جئت إلينا من الأرض المقدسة، حيث الكعبة الشريفة، وحيث المسجد الحرام، وحيث يرقد رسولنا وأصحابه والصديقون، ومصر لن تنسى لك ولا للأشقاء فى المملكة حكومة وشعباً دورهم فى مساندة هذا البلد والوقوف إلى جواره فى أصعب اللحظات التاريخية.