خيم السكون على المنطقة من الخارج فقط، هنا يرتفع جبل المقطم فى وجه الغرباء، لا يسمح لهم بالنفاذ إلى ما وراءه؛ إذ كيف يتخيلون أن وراء هذا الجبل المهيب حياة، وأن بشراً اختاروا ذلك المكان ليسكنوه، وأن ديراً تاريخياً منحوتاً فى الجبل يفزع إليه الناس فى صلواتهم واحتفالاتهم الدينية، وأن عالماً بأكمله موجود فى تلك المنطقة التى اصطلح الناس على تسميتها ب«منشية ناصر». فى منشية ناصر كان الزحام على أشده، رغم أن عقارب الساعة كانت تدور فى حيز الحادية عشرة مساء، إلا أنه لم يكن هناك أى إشارة إلى أن أحداً من سكان المنطقة سينام فى تلك الليلة، وكيف ينامون فى ليلة العيد الذى انتظروه بفارغ الصبر ليكسروا به حدة صيام دام أكثر من أربعين يوماً. إنها الليلة التى ينهى فيها الأقباط الذين يسكنون المنطقة صيامهم، ويتناولون فيها اللحوم، ولذلك لم يكن غريباً أن تفتح محلات اللحوم أبوابها على مصاريعها، ويعلق أصحابها قطع اللحوم الملفوفة فى الشاش الأبيض على الواجهات، مع لافتات ملونة يعلنون فيها تخفيض أسعار اللحوم حتى يأكل الجميع. وتناغماً مع حالة الزحام الشديدة فى المنطقة، كان الطريق الصاعد لدير القديس الأنبا سمعان الخراز مزدحماً هو الآخر، سكان المنطقة خرجوا من منازلهم ليجلسوا معاً أسفل المنازل المزينة بالصلبان، شباب المنطقة راحوا يتجولون بدرجاتهم النارية، يتسابقون ويلهون، تاركين الأغانى الشعبية تنساب من كاسيتات دراجاتهم، عدد منهم ارتدوا ملابس بألوان زاهية، وعدد آخر حرص على زيارة صالونات الحلاقة المفتوحة ليقص شعره، أو يحلق ذقنه استعداداً للعيد. تضيق الطرق فى المنطقة التى عرف عن سكانها من الأقباط العمل فى جمع القمامة من مختلف أنحاء القاهرة، وفرزها وإعادة تصنيعها فى المكان، الجميع يعرفون بعضهم جيداً، كما يعرفون الغرباء أيضاً، بين منزلين علقت لافتة بعرض الشارع تحمل صورة للبابا شنودة الثالث، كُتب تحتها ما بدا أنه كلمات لبابا الأقباط الذى رحل عن دنيانا فى العام الماضى «ربنا موجود، كله للخير، ومسيرها تنتهى». يتواصل الطريق الصاعد للدير وسط زحام كثيف من المارة والسكان، من المنازل تتدلى أفرع من الأنوار الكهربائية يزين بها أصحابها الواجهات، على المقاهى انتشر الرواد بكثافة يتابعون ما تبثه قنوات التليفزيونات المفتوحة، وتحاشياً للبرودة الشديدة التى وجدت فى وقوع المنطقة على قمة جبل المقطم، قام أصحاب المقاهى بفرد قطع المشمع المقوى على واجهات مقاهيهم، ليتيحوا الفرصة لمن يجلسون خلف المشمع أن يجلسوا فى الدفء، دون أن يحرمهم الحجاب المضروب حولهم من متابعة المارة فى الطرقات. تضيق الطرق بالسيارات المتتابعة والتى تقصد دير القديس الأنبا سمعان الخراز حيث يقام قداس الميلاد، وحيث سبق أن أقيمت الصوات من أجل وحدة مصر، هو الدير المنحوت فى الجبل، الذى يتناقل الأقباط الروايات عن صاحبه، عندما تحداه الخليفة الفاطمى أن يحرك جبل المقطم من مكانه، تقول الرواية إن القديس نجح فعلاً فى تحريك الجبل بعد أن ظهرت له العذراء مريم، ورغم ذلك فقد هرب حتى لا ينال المديح من أحد. عند الدير كانت صورة كبيرة للبابا شنودة الثالث تحتل المدخل، فيما ارتفعت على واجهة الدير صورة للبابا تواضروس الثانى يهنئه فيها الأقباط بالعيد، كان القساوسة قد أنهوا قداسهم، وفرغ الشمامسة من تلاوة الترانيم، ومد العمال أياديهم بهمة عالية ليغلقوا باب الدير الحديدى الضخم، قبل أن ينصرفوا إلى شئونهم.