"من طلب العلا.. سهر الليالي"، لم يمر ذلك البيت الشعري على مسامعه كآلاف من الحكم التي ألف العامة ترديدها، تقوّى به على عناء فاجئته به الحياة صبيا، فحينا يراه دواء يخفف مرارة نفس مكسورة بفعل أبواب أغلقها البعض في وجهه، وحينا يتخذه فأل فرج يجهز على ضيق حاله، ثم يراه سلما يقربه من حلم لم يكن فيه مجده الشخصي بطلا أوحد، لتعاوده الحياة أخيرا بابتسامة أمل تكمن في ابتكار كان سباقا إليه، فيعلو صوته مناديا بفرصة يرد بها الجميل إلى بلاد تعلق قلبه بترابها. شارع يسير فيه طفل يحمل الدنيا بين ذراعيه، يذهب خاطره إلى مستقبل تمناه عامرا بالنجاح، تتوق نفسه إلى لحظة يسمع فيها أصوات محبيه ينادونه ب"الباش مهندس هاني صابرة"، إلا أن القدر ساق له بعد الأمل بلاء، ليأتي في طريقه شخص يعبث ب"بندقية رش" فيطلق منها رصاصة طائشة تغمض عينه اليمنى إلى الأبد، "الحادثة دي سببت لي حرق في شبكية عيني اللي أخدت فيها الطلقة، كان عندي 12 سنة وما كنتش لسه خلصت أولى إعدادي". إذا نظرت إلى عينه المصابة تجدها بارقة كأن لم يمسها ضرر، إلا أن "نصف الحياة" الباقية كانت سبيله إلى ممارسة أحب الهوايات إلى قلبه، "كنت بارع في الشطرنج لدرجة إني غلبت بطل جامعات مصر قبل الحادثة، عشان كده خالي قرر يعلمهالي على الكمبيوتر عشان يهون عليا اللي بقيت فيه". كراهية "هاني" لجهاز الكمبيوتر قبل الحادث تحولت إلى عشق كامل بعدها، رأى فيه عالما جديدا يقربه من حلم "الهندسة" الذي فقده، فتعلم كافة البرامج الخاصة بالرسم والحسابات، حتى صمم بنفسه برامج إلكترونية ب12 لغة، "حسيت إن طموحي ما ينفعش يقف عند البرمجة، وإني لازم أستغل اللي اتعلمته في حاجة الناس تشوفها مش مجرد شيء افتراضي". لم يكمل الشاب تعليمه الجامعي رغبة منه في البحث عن عمل مبكر يعينه على حلمه، لتأتيه الفرصة عن طريق أحد أصدقائه الذي رشحه لعمل داخل ورشة لتحريك ماكينات النجارة بالكمبيوتر، "لما اشتغلت لقيت المكن كله إيطالي وألماني وأمريكي، حاولت أدرسه وأفهم كل كبيرة وصغيرة فيه، وحلمت باليوم اللي يكون في منتجات زي ده بصناعة مصرية".إذا لم تقتنص فرصة أعطتها لك الحياة فلا تلومنّ إلا نفسك.. استحضر "هاني" تلك الجملة في لحظة تعثر إحدى الماكينات عن العمل وعجز كل زملائه عن إصلاحها، ليتقدم الشاب العنيد تجاهها ويبدأ فحص ذلك العيب الذي حير الإيطاليين ساعات من الزمن، "الماكنة دي كانت ب2 مليون جنيه، والكل اتفاجئ إني صلحت العيب ورجعتها تشتغل زي ما كانت، رغم إنهم حذروني من مجرد المحاولة". نجاح المحاولة طمّع "هاني" في حلمه، فها هو يواصل الليل بنهاره كي يصنع "ماكينة" لتقطيع الرخام والخشب وأدوات النجارة باستخدام "الكمبيوتر"، ينفق كل ما يتكسبه من العمل ببرمجة الكمبيوتر ومواقع الإنترنت على مشروعه، "نجحت في عمل أول ماكنة خشب بارسم لها الحاجة على الكمبيوتر، وتتحرك ببرنامج صممتهولها، لكن كانت محتاجة تطوير". ال"مش مهندس هاني"، لقب استحضره "هاني" ساخرا كلما تذكر محاولة أحد أصدقائه تثبيط عزيمته بداعي عدم التحاقه بكلية الهندسة، "مكانش ينفع أروح لأي جهة حكومية أعرض عليهم ابتكاري، ومحدش كان هايساعدني لأني في نظرهم مش مهندس". "نجار".. الحل الأخير ل"هاني"، بعد أن تشققت قدماه من طيلة "اللف" على أبواب من يمول مشروعه، فقرر فتح ورشة صغيرة لتجريب ابتكاره الوليد خلالها، "فضلت 7 سنين أطور في الماكنة دي، وأعمل شغل نجارة للزباين، وأصلح العيوب لحد ما صنعت نسخة ممكن تنفذ أي رسومات عن طريق الكمبيوتر، وبأي ألوان أحتاجها". الورشة الصغيرة أصبحت مصنعا ، والماكينة الوحيدة أنست بضجيج العشرات من أخواتها، فيتحول المكان إلى خلية عمل تصنع ماكينات تقطع الرخام وتحفر على الأخشاب وتصنع أرجل الكراسي ومقابض الدوالايب، ليبقى شيء وحيد يجمع كل تلك الأشياء، يتمثل في أياد مصرية خالصة تشققت من أجل صناعته.الحلم له بقية، فإذا كان الشاب الثلاثيني تمنى بالأمس بزوغا ل"باكورة أفكاره"، يتمنى اليوم خدمة يؤديها لبلده، فاعتماد الدولة على تلك الماكينة المصرية الصنع يوفر ملايين الدولارات لاقتصادها، "سعر الماكنة المستوردة من الصين ما يقلش عن 25 ألف دولار، مع إن الماكنة اللي بيتم تصنيعها هنا ما تتكلفش أكتر من 70 ألف جنيه، يعني فارق 200 ألف جنيه تقريبا ممكن نوفرهم في الماكنة الواحدة". تبني الدولة لابتكار "هاني"، يحمل حلا أكيدا لأزمة البطالة الطاحنة، بفعل المصانع العديدة التي سيتم فتحها والأيدي العاملة التي سيتم ضخها بالآلاف للمساهمة في تصنيعها بكميات كبيرة، فضلا عن تصديرها إلى دول إفريقية وعربية في حاجة لها، "ناس كتير بتكلمني عشان تشتري المكن ده بس أنا ماعنديش القدرة على عمل الإجراءات والورق المطلوب لتصديرها". "نفسي مصر تتحول لمنطقة صناعية كبيرة"، أمنية أخيرة تظل في جعبة الشاب الحالم، ينتظر اليوم الذي تخفف فيه الدولة من وطأة الإجراءات الروتينية لإنشاء المصانع، طالما التزم أصحابها بما لا يضر البيئة، "لو الدولة عملت كده هاننهض صناعيا في أقل من 10 سنين، ومش هايبقى في مواطن واحد مش لاقي شغل في بلدنا".