وما إن سرح الزبائن «المقرشين» -كما يردد أهل السبيل على مسمط «عضمة»- حتى ناءوا بأسعاره عليهم، وأصبح «سقط الحيوانات» عزيزاً عليهم، ولم يبق لهم سوى سقط الأغنياء. كان «عضمة» صاحب ابتكارات، ولعل أشهرها «ساندوتش الزبالة». فقد وجه «صبيانه» إلى جمع فضلات طعام الأغنياء من زبائن مطعمه فى برميل كبير، ومنها كان يحشى ما أطلق عليه «ساندوتشات الزبالة»، ليبيعها لفقراء السبيل الذين عزت عليهم سلعته، كثيراً ما كان ينظر إلى اختراعه مبتهجاً ويعيش حالة فريدة من حالات الرضاء عن النفس وهو يقول: «بردو الغلبان لازم ياكل»!. كان «عضمة» يرى أن تلك سنة الحياة، أن يقتات الفقراء على فضلات الشباب الثرى، الذين أطلق عليهم عم عباس -عجوز السبيل- وصف «الغزاة». - عجوز السبيل: الغزاة مقبلون.. الليل موعدهم. لا يظهرون إلا فى الظلام. وهو سيعود نهاراً. اختفى فى فلق الصبح. وسيعود فى فلق الصبح. لذا لا يأتى الغزاة إلا ليلاً. وسيعود نهاراً. سيعود الفارس أحمد. سيعود!. مختار واحد من عشرة «جرسونات» استعملهم المعلم «عضمة» بالمسمط بعد الفتح. كان دقيقاً كل الدقة فى اختيارهم، فاشترط أن يكونوا من الحاصلين على شهادات جامعية، ولهم معرفة باللغة الإنجليزية، كل ذلك لكى يضمن إجادة تعاملهم مع زبائن الفتح. الحركة داخل السبيل كانت تخف تدريجياً كلما أزاح الليل خيوط النهار، وتستمر هذه الحركة فى التلاشى حتى تختفى تماماً فى كافة الأنحاء، باستثناء المسمط. فالحركة فيه تبدأ بدبيب أقدام الزبائن من أبناء المجتمع الراقى، كما يسميهم مختار، مع خيوط الظلام الأولى، ليتعالى الضجيج، وتتزاحم الأقدام وتتلاحم، كلما ألقى الليل بستائره على بيوت وحوانيت السبيل، ليصبح المسمط مصدر الضوء الوحيد، ويصبح «عضمة» مصدر الحياة التى تهدأ وتسكن فى المحيط من حوله. كان مختار جزيرة الهدوء الوحيدة داخل المسمط. يتلقى طلبات الزبائن فى هدوء، ويحضرها فى هدوء. نادراً ما كان يبدر منه أى نوع من التفاعل مع المحيط به. كالآلة دائماً يعمل. حركاته مضبوطة مع إيقاع سكناته بشكل يثير النظر. دائماً ما ينظر إلى الزبائن الذين يضيق بهم المكان دون أن يراهم!، ويبدو أيضاً أن أحداً منهم لم يكن يراه.. إلا هى.. نظر إليها فرآها. كانت عيناه تصافح عينيها كلما رآها، لكنها دائماً كانت تجلس لتأكل، ويقف هو ليخدم!. آه! لست أدرى ماذا فعلت بى؟!. إنها تنظر إلىّ، ولكن هل ترانى؟، وماذا إذا رأتنى؟ هل يمكن؟. هل يمكن أن تشعر بى؟. إننى أحس بأنها الشاطئ الذى يمكن أرسو عليه. لقد أحرقت كل سفنى. ولا عودة. فهل يكون هناك ذهاب. أشعر أحياناً بأن شمسها تعطل عينى عن الرؤية. تلك هى التى يمكن أن أحلم بها، أن أشعر بها، هى الدنيا التى ينبغى أن أعيشها، أن أذوب فيها، أن أتلاشى كقطرة فى محيطها، لكننى قطرة ملوثة. نعم!.. من المؤكد أنها تنظر لى هكذا. قطرة بإمكانها أن تلوث ماء المحيط.. «آه يا حسين».. رشفة ماء قبل الذبح لم يعطوها لك. كانت رشفة الماء هى الدنيا. رشفة هى عين الحياة.