أودع المجلس الأعلى لتأديب القضاة، أسباب الحكم النهائي الذي أصدره مؤخرًا بإحالة 32 قاضيًا إلى المعاش، وذلك لإدانتهم بالاشتغال بالسياسة ومناصرة فصيل سياسي بعينه (جماعة الإخوان الإرهابية)، بالمخالفة لأحكام قانون السلطة القضائية، وذلك عبر إعدادهم وتوقيعهم على بيان يؤيد الجماعة، وتلاوته من أعلى منصة الاعتصام المسلح للجماعة بمنطقة رابعة العدوية في 24 يوليو 2013. وصدر الحكم برئاسة المستشار أحمد جمال الدين عبداللطيف رئيس محكمة النقض، وعضوية المستشارين أيمن عباس رئيس محكمة استئناف القاهرة، وسري الجمل رئيس محكمة استئناف الإسكندرية، وأحمد صبري يوسف رئيس محكمة استئناف طنطا، وخالد الصاوي القباني وجلال محمد عزت حجازي وخالد جمال الدين بيومي، نواب رئيس محكمة النقض، بحضور المستشار نبيل أحمد صادق النائب العام. وقال المجلس الأعلى في أسباب الحكم، إن القاضي ياسر محمد أحمد محي الدين، لا يصلح لتولي القضاء شأنه في ذلك شأن بقية القضاة الموقعين على البيان، وذلك بعدما أقر صراحة أمام المجلس بمشاركته مع غيره من القضاة في إصدار بيان "رابعة" المؤيد لجماعة الإخوان، والذي تلاه شقيقه القاضي محمود محي الدين بالإنابة عن مجموعة من القضاة في المركز الإعلامي داخل مقر الاعتصام، وتصميمه حتى ختام المرافعات على كل ما ورد فيه، بما يؤكد أنه "بعد أن ضل لا زال في ضلاله". وأكد المجلس، أن البيان محل الاتهام، حصل في نطاق ميدان رابعة العدوية إبان الأحداث التي كان قوامها المجاهرة بآراء سياسية -أيا كانت- والتهديد والوعيد بجرائم جنائية إذا لم تتم الاستجابة لما سعت إليه من أهداف سياسية، وأن أضواء الإعلام قد سلطت على البيان، وما ورد فيه، وعلى القاضي ملقيه والقضاة مؤازريه، لافتًا إلى أن محور البيان هو إعلان موقف للقضاة من الأحداث السياسية الحاصلة في بلادنا وقتذاك التي سماها القاضي ياسر محي الدين ب"كبائر الأمور التي تلم بالبلاد". وأضاف المجلس، أن هذا الأمر من صميم السياسة المحظور على القضاة الاشتغال بها أو الاقتراب منها أو حتى الإدلاء برأي فيها، وفيه خروج بالغ فادح وفاضح عن نطاق العمل القضائي، وشذوذ جسيم عن التقاليد القضائية الراسخة التي تلزم القاضي بحدود لا يتجاوزها، قائلًا: "هو قاض وليس شخصية عامة، ومن ثم فعليه أن يلزم محرابه عاكفًا على عمله القضائي، ينأى بنفسه السياسة بما لها وما عليها، ولا يجهر برأي في الشؤون العامة للبلاد، أو يشارك في مجلس يناقشها علنًا أو في إلقاء بيان بشأنها، لما في ذلك من تأثير في السياسة وتأثر بها". وشدد المجلس الأعلى على أن "القاضي ينبغي عليه أن ينأى بنفسه عن الإعلام، ويعلو بشخصه ومنصبه عنه، فلا يظهر فيه قصدًا أو يتحدث إليه ولا يدلي بأي بيان أمامه أو يشارك في إعداده أو يؤازر ملقيه، خاصة إذا كان كالبيان محل الاتهام، وفي الظروف التي أعد وألقي فيها". كما شدد المجلس على عدم صحة ما أثير في المرافعة والمذكرات، من أن الاشتغال بالسياسة وإبداء الرأي فيها وفي الشؤون العامة للبلاد غير محظور على القضاة، بزعم أن المادة 73 من قانون السلطة القضائية تحظر على المحاكم إبداء الآراء السياسية بما مؤداه أن ذلك مباح للقضاة فرادى. وأوضح المجلس، أن هذا الزعم غير صحيح، مؤكدًا أنه "من المبادىء الأصلية المقررة في قضاء التأديب، وإن كان لازمًا أن تكون العقوبة التأديبية مقررة بنص في القانون، مثلها في ذلك مثل العقوبة الجنائية، فإن الجريمة التأديبية نظرًا لطبيعتها وخاصة بالنسبة للقضاة، تختلف عن الجريمة الجنائية اختلافات جوهرية، أخصها أنه لا يلزم لها نص يقررها، بل إن مجلس التأديب هو الذي يقدر توافرها من عدمه حسب الواقعة المعروضة عليه، وفي ضوء كافة الظروف والملابسات التي حصلت فيها". ولفت المجلس الأعلى لتأديب القضاة، إلى أن مجلس التأديب (أول درجة) فحص واقعة الاتهام وبحثها، وأورد على ثبوتها في حق القضاة الذين قضي بإحالتهم إلى المعاش، أدلة صحيحة سائغة لها معينها في الأوراق، ومن ثم فإن المجلس الأعلى يقتنع بأسباب حكم مجلس التأديب واعتنقها، وتأكد لديه أنهم لا يصلحون لتولي القضاء. وذكر المجلس الأعلى، أن "دور وزير العدل -سواء في نطاق طلبه رفع الدعوى التأديبية أو ندب من يقوم بإجراء التحقيق السابق عليها- لا يجرد الدعوى التأديبية من ضماناتها الأساسية، ولا يجعل السير فيها أو متابعة إجراءاتها أو الفصل فيها لجهة إدارية، بل كل الأمر فيها لمجلس التأديب الذي أقامه المشرع من عناصر قضائية تتصدر في التنظيم القضائي درجاته العليا، وإليه تؤول مسؤولية تقدير التهمة ووزن أدلتها بمقاييس موضوعية، وهو لا يقيد في أي حال بما يسفر عنه التحقيق الأولي، جنائيًا كان أم إداريًا، إذ خوله المشرع حق إطراحه وإجراء تحقيق جديد يتحدد على ضوئه مسار الدعوى التأديبية ووجهتها النهائية". وأضاف المجلس الأعلى، أن مجلس التأديب (أول درجة) يستقل بتحديد إطار الدعوى التأديبية أو نطاقها حين يقرر إسقاط بعض عناصر الاتهام التي تضمنتها عريضتها، وهو ليس ملزمًا بالسير في الدعوى التأديبية ما لم ير وجهًا للاستمرار في إجراءاتها، واستظهار الحقيقة في شأن الاتهام والفصل فيه مرده إليه، بما مؤداه أن الدعوى التأديبية زمامها بيد مجلس التأديب وإليه مرجعها، بدءًا بإجراءاتها الأولى وإلى نهاية مطافها. وقال المجلس الأعلى في أسباب الحكم المتضمن تأييد براءة 23 قاضيًا آخرين من ذات الاتهام، إنه تأكد لديه أن هؤلاء القضاة لا شأن لهم بالسياسة والإعلام، وجحدوا أية صلة لهم ب"بيان رابعة" موضوع الاتهام، وذكرهم ضمن من شارك في إصداره، كان خفية عنهم وبدون موافقتهم، لافتًا إلى أنهم سارعوا جميعًا فور صدور هذا البيان، إلى نفيه في الصحف أو إبلاغ إنكارهم له، وهو الأمر الذي يقتضي تأييد حكم مجلس التأديب ببراءتهم، ورفض طعن النيابة العامة ضدهم.