الأخلاق والقانون، أو ربما هى القانون والأخلاق، وقد تكون القانون ثم الأخلاق، لكن يظل الأمثل كليهما جنباً إلى جنب لا ينفصلان، ولا تأخذ هذه إجازة مصيف ولا تختفى تلك فى إجازة عارضة. فالبلد إن كتب له البقاء من وجهة نظر أمنية بفضل الله سبحانه وتعالى ثم جيشنا العظيم، فسيبقى عرضة للتفتت والانهيار بسبب تدهور أخلاقنا وغيبوبة قوانيننا. وكم من جدل عقيم وسجال سقيم يجرى فى دوائرنا حول أيهما كان السبب فى الوضع المجتمعى المتردى الذى نعيش، والمتدهور بفعل انهيار أخلاقى واضح وضوح الشمس الحارقة الكاوية وتهلهل قانونى بازغ بزوغ القمر فى ليلة 14. البعض يعول على القانون وحده لإصلاح حال الشارع الذى لم يعد مائلاً بل بات منكفئاً منزلقاً منعطفاً نحو انعطافة خطيرة اسمها «الفوضى غير الخلاقة». والبعض الآخر ما زال ينتظر أن يرن جرس المنبه ذات صباح فتستيقظ الضمائر الميتة، وتدب الحياة فى أجساد الأخلاق المتحللة فى القلوب المتحجرة. لكن لا هذا سيحدث من تلقاء نفسه، ولا ذاك سيفاجئنا ذات يوم. وذات يوم فى الأسبوع الماضى، وعلى غير عادتى، ركبت «تاكسى أبيض» دون السؤال عن صحة العداد الذى أصبح متوعكاً دائماً وأبداً، ولاحظت بعد تحرك السيارة أن العداد مظلم ظلام الليل البهيم. فسألت السائق المدخن المستمع لأغنية قبيحة بعلو الصوت، المزود سيارته بزجاج معتم، عن سبب ظلمة العداد، فلم يدَّع تعطله، ولم يكذب فى شأن حالته، لكن قال بعد نفس عميق شهقه ثم زفره فى سماء السيارة «العداد ما ينفعش. لما كسرة العداد تبقى خمسة جنيه، أبقى أشغله وإلا الحكاية مش هتكون جايبة همها». فسألته بكل هدوء: «طيب وأنا أسرق مين؟!» وطبعاً لم يفهم السائق مقصدى، فتصرفه ليس مصنَّفاً تحت بند السرقة، ولكنه ينم عن ابتكار من أجل الحصول على المزيد من المال، وهو التصرف الذى يراه حقاً أصيلاً، وليس فيه ما يغضب الله سبحانه وتعالى. وبالطبع استغرق السائق على وقع أربع سجائر فى الشكوى من غلاء المعيشة، وسعر كوب الشاى على المقهى، ومصاريف العيال، وطلبات البيت، وسعر علبة السجائر، وأقساط السيارة، ولم يتوقف إلا حين واجهته أننى أعانى المعاناة ذاتها وفى البنود عينها، فنصحنى بمحاولة إيجاد مخرج كذلك الذى وجده بقراره بإيقاف العداد، ضارباً بى وبالقانون وبالحق وبالعدل عرض الحائط. المنطق الإبداعى ذاته يحكم عمل المدرس الخصوصى الممتنع عن الشرح فى الفصل، وموظف الحكومة الذى أعاد فتح الدرج بكل قوة بعد ما أغلقه على مضض لفترة وجيزة بعد ثورة يناير 2011، ومقاهى الكوربة التى تحتل أرصفة وشوارع المنطقة، ورواد النوادى الراقية الذى يوقفون سياراتهم أعلى الرصيف وتحته وحوله، ومجموعات الشباب المتمركزة أمام باب مدرسة البنات حيث التحرش الإجبارى تحت سمع وبصر الجميع، وأصحاب الأكشاك المتوغلة الممتدة المسيطرة على أرصفة بأكملها، ومسئولى النظافة غاضّين الطرف عن تلال من القمامة فى أرقى شوارع مصر وليس فى مناطقها العشوائية والشعبية فقط، وعمالها الذين احترفوا التسول فى الإشارات، وآلاف مؤلفة من المتسولين المتفرغين والمبدعين فى شئون الابتزاز العاطفى حيث نظرات الحزن واليأس والغبن وأحياناً الدموع الغزيرة، والصحى حيث الجروح النازفة والأساطر (جمع أسطرة) النافدة والروشتات المسهبة، والدينى حيث الخمار والنقاب والجلباب القصير واللحى الطويلة، ولا ننسى كتيبات القرآن، بل ووصل الأمر إلى حد توزيع المصاحف على صغار المتسولين وإجبارهم على الجلوس والتظاهر بالقراءة وهو ما يجذب أصحاب القلوب المتدينة والعقول المتأسلمة. والقوائم والأمثلة الدالة والمبرهنة على انهيار الأخلاق وتحلل إنفاذ القانون (وبالطبع اعتناق مبدأ التدين الشكلى المظهرى منزوع المضمون والجوهر والمعنى) لا تعد أو تحصى. وهى تحيط بنا وتطاردنا على مدى ساعات اليوم، لكن أكثرنا إما يتجاهلها بحثاً عن صفاء الذهن أو اعتادها تحت وطأة القبح. وحيث إن الغالبية لا تتحرك إلا إذا أصدر الرئيس توجيهاً، أو وجه تأنيباً، أو تحدث صراحة، فإننى أقول «الشارع يا ريس». الشارع فى حاجة ماسة وحيوية وآنية للضبط. اضبط الشارع يا ريس، ينضبط الجانب الأكبر من المجتمع، لحين ميسرة وتمكننا من ضبط التعليم والصحة والتموين والسكن إلخ. تخيل حضرتك شارعاً يتم فيه تطبيق القانون بدقة وشدة وصرامة وعدالة، حيث إلقاء القمامة يعنى غرامة مالية آنية، وإيقاف السيارة خطأ يعنى تحصيل غرامة فى حينها، والتحرش بأنثى يؤدى إلى حبس، والوجود فى الشارع فى أثناء اليوم الدراسى أو العمل الحكومى (ما عدا الظروف الطارئة) يعنى إحالة إلى التحقيق، والامتناع عن تشغيل العداد يعنى توقيع مخالفة قاسية، والقيادة عكس الاتجاه تعنى سحب السيارة برمتها، واحتلال الرصيف وتقديم مأكولات غير صالحة للاستخدام الآدمى والتباطؤ فى خدمة المواطنين، وبث الصلاة كاملة عبر الميكروفونات غصباً وإجباراً، والقيادة الخطرة، ومعاملة الناس السيئة فى المستشفيات والامتناع عن تقديم الخدمة الطبية والإنسانية اللائقة. مثل هذا الشارع يخلق مواطناً على يقين بأن المسألة لم تعد هزاراً، أو بالذراع، أن خروجنا من قواعد العصور الوسطى وقيم العهود الظلامية بات حتمياً، حتى وإن قاوم البعض أو اعترض أو طالب بالحق فى الهمجية والفوضوية والظلامية باعتبارها اختيارات شخصية. فمحاولة جر المجتمع برمته إلى قاع الأمم (وهى محاولة أثبتت نجاحاً كبيراً فى السنوات القليلة الماضية) آن لها أن تنتهى، وهى لن تنتهى إلا بتطبيق القانون وإعادة زرع الأخلاق من أجل ضبط الشارع.. يا ريس!