هنا موقف عبدالمنعم رياض، الساعة تدق الثالثة عصراً، رجل فى منتصف الأربعينات يقبض بيديه على جريدة ورقية طبقها باحتراف حتى يستطيع حل الكلمات المُتقاطعة، بينما ركنت سيدة عجوز جسدها النحيل على «كُشك» ناظر المحطة، بعد أن فشلت فى العثور على مقعد، وشاب فى أواخر الثلاثينات يرتدى ملابس «العمال» وإلى جواره مواسير صرف صحى شارداً بذهنه مُتسائلاً بحيرة: «هو سواق الأتوبيس هيرضى إنى أركب معاه بمواسيرى دى؟»، بينما انشغلت فتاتان برشف القليل من المشروبات الغازية لسد الظمأ وتضييع الوقت، فى الوقت الذى يعبث فيه شيخ كهل بذقنه الكثة مُراقباً حركات الباقين، وسيدة فى الخمسينات من عمرها تحمل بيمينها متطلبات المنزل، يمر ثلاثة طلاب يحملون حقائبهم المدرسية على أكتافهم ويرتدون «كمامات»، «الموقف» فارغ تماماً من أى أتوبيسات.. الزحام خارج المكان على أشده، سيارات الملاكى تستغل «حارات» الموقف مخترقة إياهاً سبيلاً لها فى تخطى الازدحام المرورى بالمنطقة المحيطة، بينما يقتحم بائع برتقال ب«الكارو» حرم المكان، يُقرقض رجل فى الأربعينات من عمره «كوز» ذرة مشوياً علَّه يملأ فراغ معدته الخاوية، بينما طوى موظف «الكلمات المتقاطعة» الجريدة تحت إبطيه وذهب صوب مكتب ناظر المحطة ليسأله بعصبية: «هو أتوبيس النهضة جاى ولا لأ؟»، لُيجيبه المسئول فى برود مغمض العينين فقد أيقظه المواطن من غفوته: «كل اللى أقدر أقوله لك إنه جاى النهارده.. لكن إمتى.. معرفش». الأتوبيسات تتوالى فى دخول «الموقف»، بينما ترصدها أعين الركاب، الشمس تُشرف على المغيب، والتغير الوحيد هو تبديل الحال ليصير الواقف جالساً والجالس واقفاً، يدخل شاب مع فتاته فى حوار جانبى ينتهى بالبحث عن وسيلة مواصلات أخرى، يُقرر أحد المواطنين الذهاب إلى مكتب الناظر لسؤاله «هو المفروض ميعاد الأتوبيس إمتى؟» فيرد عليه بسخرية وهو يقلب أوراقاً بين يديه: «حضرتك مش من مصر ولا إيه؟». فى تمام الرابعة يدخل المحطة أتوبيس رقم «943»؛ يهرع نحوه كبار السن فى سباق ماراثونى قبل أن يستوقفهم «الكمثرى» مُطلاً من النافذة: «ده رايح العبور.. اللى عايز النهضة يستنى 943 بشرطة».. بعض الأتوبيسات تكرر مجيئه فوق الأربع مرات، فيما بقى أتوبيس «النهضة» مُعطلاً: «أنا لسه سائل.. المفروض فيه 7 أتوبيسات على الخط ده، لكن مفيش غير واحد جه من أول اليوم، والموظف قال لى إنه مشى الساعة 2 ونص الضهر والساعة داخلة على 5 ولسه مفيش جديد»، يُبرر بها أحد المنتظرين لعجوز يقف إلى جواره مُتأففاً. 17 جنيهاً و60 قرشاً هى كل ما يتحصل عليه «أبوشحاتة» وأسرته المكونة من 15 فرداً فى نهاية كل أسبوع، من وراء ذلك المكان الشبيه بعلبة «كبريت» كبيرة والمسمى كذباً «دكان»، الذى أقامه مع أولاده عقب الثورة بدلاً من «منور» صغير كان مرتعاً للثعابين وملاذاً للقمامة.. أسبوعياً يشترى الابن الأكبر بضاعة ب150 جنيهاً تجلب لهم ربحاً يحاولون به مصارعة ليالى الضنك.. يجلس الرجل القرفصاء فى تلك المنطقة التى جاء إليها منذ أكثر من 40 عاماً: «الواحد اتعود ميشتكيش للناس.. خلى همك فى بطنك.. العاطى هو الله».. صالة صغيرة وحمام ومطبخ، هنا تعيش أسرة «أبوشحاتة» بشارع السنترال بمنطقة «النهضة»، السرير الذى يتوسط الصالة عبارة عن «كنبتين» بلدى متراصتين بمهارة إلى جوار بعضهما البعض، إيجار تلك الغرفة 150 جنيهاً شهرياً. «عندى 6 بنات، منهم 5 وعيالهم قاعدين معانا»، تقولها ربة المنزل صاحبة السبعين عاماً بأنينٍ مسموع، بينما يعمل الابن الأكبر فى ورشة أحذية ب«منشية ناصر» يقتات منها الفُتات، كانت صاحبة القسمات المصرية الأصيلة هى من اقترحت على زوجها العجوز تنظيف «منور» العمارة ووضع «كراتين شيبسى وبسكويت»: «أهى حاجة تساعد.. العيشة بقت مُرة»، إلا أنها لم تكَد تتهلل أساريرها بعد افتتاح «دكان شحاتة» حتى باغتتها الشرطة بناءً على بلاغ قدمه أحد السكان فيها يتهمها فيه باستغلال «أملاك الدولة»، لكن عندما قام مأمور نقطة «النهضة» بمُعاينة المكان رقّ قلبه مُخاطباً الأسرة الفقيرة: «خليكم فى مكانكم ولو حد كلمكوا اتصلوا بىّ على طول». فى تمام الخامسة إلا ربع حضر أتوبيس «النهضة» بلون أخضر حاملاً لافتة مُزينة برقم «943 بشرطة»، الجلوس يُخرجون زفرة، بعدها يصعد رجل عجوز درج الأتوبيس مُتكئاً على عُكاز خشبى، يهبط السائق من الأتوبيس لتبدأ السياسة فى حديثها، يستدير رجل مُسن فى جلسته ليُحدث سيدة فى الكرسى خلفه: «أيام الملك كان فيه أكل وشرب وعز ومكنش فيه حاجة اسمها دينى ولا دينك»، فتُقاطعه الحديث سيدة مُسنة ترتدى عباءة سوداء فى الكرسى المقابل له: «مكنش فيه فرق بين مسلم ومسيحى ولا حتى يهودى، أصل كلهم خلق الله»، يُنصت إلى الحوار رجل سبعينى مرتدياً جلباباً مخططاً أخضر اللون مُعمماً بكوفية «صعيدية» مُخاطباً السائق: «يلا يا أسطى إحنا كده هنرّوح على العشا.. يا ابنى هوه انتوا كل يوم هتيجوا متأخرين كده.. إحنا بقالنا أكتر من ساعتين مستنيين» مناشدة يتحرك على أثرها الأتوبيس، ينزوى «أبوشحاتة» بجوار بضاعته التى هى عبارة عن أكياس «شيبسى وبسكويت» وبعض مساحيق النظافة، ما يحدث فى مصر على الساحة السياسية «كله على دماغنا إحنا»، هذا ما يؤكده الرجل العجوز مُفسراً: «الشباب من غُلبهم بيعملوا كده.. لو كل واحد بيشتغل ما كنش نزل عمل هوجة»، «أبوشحاتة وزوجته» انتخبا الدكتور محمد مرسى فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة: «مانعرفش لا نمضى ولا نختم.. كنت هعلم على (أحمد شفيق) بالغلط بس ابن الحلال اللى كان معايا فى اللجنة هوه اللى فكرنى وقال لى علّم على ده».. رغم عدم ندمه على انتخاب مُرشح الإخوان فإنه يؤكد أن السنين علمته أن «أى إنسان بيركب الكرسى اعرف على طول إن مفيش فايدة منه».. الحفيد الأكبر للرجل الكهل يبلغ من العمر 14 سنة: «طلَّعناه من المدرسة عشان معناش فلوس». رغم حالته غير المهندمة، فإن الابتسامة لم تفارق وجهه، جلس عم «حسين» على أحد المقاعد مُستنداً بجسده على شباك أتوبيس «النهضة».. العامل بالديكور فى مبنى الإذاعة والتليفزيون يقضى قُرابة ال12 ساعة خارج منزله، رغم أن مواعيد عمله لا تتعدى ال5 ساعات: «ميعادى من 10 الصبح لحد 3 العصر، بس لازم أصحى من 8 عشان ألحق الأتوبيس وبروَّح بعد العشا».. «943 بشرطة» هو وسيلة المواصلات الوحيدة التى يستخدمها الرجل الأربعينى؛ ف«الجنيه» ثمن التذكرة يوفر عليه بهدلة الميكروباصات، حسب وصفه. تجلس «أم مروان» -الابنة الصُغرى ل«عم شحاتة»- حبيسة جدران منزلها الأربعة، حتى شباك النافذة لا تجرؤ على فتحه، فالصبية الذين لم تتجاوز أعمارهم ال12 عاماً يقبعون تحت شرفتها؛ يدخنون الحشيش والبانجو وتتلاقى ألسنتهم عبر «سبّ الدين» والبذاءات اللفظية التى صارت اللغة الأم فى الحى؛ حتى فى حوارات الأطفال الذين امتصت عقولهم الإسفنجية كل «كلمة» و«لفظ نابى» يتفوه به شباب المنطقة.. الهم الوحيد الذى يُثقل كاهل السيدة الثلاثينية هو عودتها إلى البيت بأمان: «الواحدة بتشكر ربنا لما بترجع بيتها من غير أذى بسبب البلطجية اللى فى المنطقة».. تحلُم «أم العيال» باليوم الذى تهجر فيه المكان أو تشعر بوجود «الدولة» على أرضهم المظلمة، «أم فاطمة» تُشارك شقيقتها الإحساس بالأسى بسبب عُثر الحال الذى تحياه، علاوة على ضحالة المستوى التعليمى فى مدينتها الصغيرة: «أنا بدفع 100 جنيه عشان درس المسخوطة اللى لسه فى سنة أولى ابتدائى.. هجيب كام 100 بقى إن شاء الله عشان أعلمها هى وإخواتها». حين اندلعت الثورة شعر «شحاتة» أن القدر بدأ يبتسم له فما تردد على أسماعه من كلمات العدالة الاجتماعية وحق الغلابة جعله يؤمن بأن أيام البؤس قد ولت بلا رجعة، وفيما مرت الأيام تخلفها الشهور بقى الحال كما هو عليه، بل زاد الأمر سوءاً: «بنشتغل يوم ونقعد عشرة»، مدينة السلام والنهضة التى غنى لها بعض الشباب أغنية شعبية عقب الثورة أشاروا فيها إلى قيام أهلها بسرقة بعض المولات التجارية، لم يكن الابن الأكبر للعائلة الفقيرة واحداً منهم، لكنه يتوعد بعيون تطُقّ منها الشرار: «أنا مستعد للسرقة فى الثورة اللى جاية»، قبل أن يحلل وضعه وشباب الحى مما يحدث من مُهاترات سياسية: «الناس اللى هنا ملهاش علاقة بالتحرير ولا الإخوان والدستور والكلام ده.. وربنا يا أستاذ لو الناس دى فاض بيها الكيل أكتر من كده هتهجم على كل البهوات اللى ببدل دول ومش هيخلوا حاجة فى البلد سليمة». سأل الرئيس الأمريكى قرينه المصرى «السادات» عن السبب فى تكدس السكان فى القاهرة والدلتا، ما شغل بال الرئيس المؤمن فاستدعى على أثره د. حسب الله الكفراوى الذى كان وقتها يشغل منصب محافظ دمياط، كان ذلك فى أبريل عام 1977، طلب منه أن يعكف على عمل دراسة للإجابة عن سؤال رئيس الولاياتالمتحدة بعدما أمر ممدوح سالم -رئيس الوزراء آنذاك- بتعيين محافظ بديل ل«الكفراوى» الذى تفرغ لإعداد هذا المشروع، قبل أن يُصبح «الكفراوى» وزيراً للإسكان فى أكتوبر من العام نفسه، وبالفعل قدم الوزير الأسبق مذكرة من 25 صفحة تتضمن 6 مناطق عمرانية بمحافظات مُختلفة، علاوة على تنمية 17 مدينة فى أطراف القاهرة الكبرى من بينها مدينة السلام التى حوت بين جنباتها حى «النهضة».. «كانت مدينة السلام عشوائية ودخلنا لها الطرق والصرف والكهربا وكل المرافق» يقولها «الكفراوى» ل«الوطن»، عندما كانت الدولة تهتم بمحدودى ومعدومى الدخل قبل أن تنتقل لتدليل أصحاب «الكومباوند» ولاعبى الجولف ومُريدى حمامات السباحة، حسب قوله. عند إشارة «روكسى» توقف الأتوبيس أكثر من 10 دقائق، التقط فيها «حماد» أنفاسه وقال بلهجة تنُمّ عن أصوله الصعيدية رغم نزوحه إلى القاهرة عام 1961: «البلد خربت وبقت زحمة كده من بعد النكسة»، مُعتبراً أن التهجير الذى حدث فى محافظات «القنال» هو ما أدى إلى الضغط السكانى على القاهرة، الرجل صاحب السبعين عاماً يدخل فى مناقشات حول كل الأمور؛ الاجتماعية والسياسية محللاً وضع البلد: «الإخوان هيدمروها». مرت الساعات كالسنين، من «التحرير» إلى «النهضة» مسافة طويلة يقطعها مئات المواطنين مضطرين، على أمل أن تكون «النهضة» اسماً على مسمى، لذا يجلس الركاب بين نقيضين، حلم الوصول إلى «النهضة» للراحة والنوم، وألم البقاء فى المكان طالما أن «نهضته» بهذا الحال، مستخدماً تقنية «الفلاش باك» تذكر الرجل ذلك اليوم: أتوبيسات تحمل شعار القوات المسلحة، مزينة بالملصق الشهير «الجيش والشعب إيد واحدة»، كانت سبيلهم فى العثور على مأوى آمن، طلب أحد ضباط الجيش من كل مواطن إظهار بطاقته الشخصية، ثم اقتنصها جميعاً، ليأمر المعتصمين أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون بالصعود داخل الحافلات، وما هى إلا ساعتان حتى توقفت الأتوبيسات أمام منطقة غرب مدينة «النهضة»، نزل الحشد الذين من كثرتهم «الشارع العمومى ترش الملح مينزلش من الناس»، وتسلم كل منهم بطانية تُعينه على برد الشتاء، تهللت أسارير المعتصمين الذين وجدوا حل «مأواهم» أخيراً، رغم العقارات الخاوية على عروشها، والمُنقطع عنها سُبل الحياة «لا مياه ولا نور ولا صرف»، فإن السكان الجُدد كانوا فى قمة السعادة، بعد عامين من النوم فى الشوارع، غير أن الفرحة لم تكتمل، ففور رحيل الجيش حلّ البلطجية، فصار الاسم المُتداول «مساكن النهضة المحتلة» بفعل سكان لا يملكون عقوداً لعقاراتهم، و«شبيحة» غايتهم الوحيدة هى السطو على حاجاتهم. «المحتلة» هو الاسم الذى أطلقه سكان المدينة على مجموعة من العقارات التى يسكنها بعض الأهالى النازحين من مخيمات السلام، فى البدء تم طردهم من الشقق ذات الإيجار الضئيل التى كانوا يقطنونها بعدما استغل أصحاب الشقق «هوجة الثورة» ليُزيحوهم عن أملاكهم، فلم يجدوا سوى خيام على أرضية مركز شباب مدينة السلام قبل أن يقرروا الاعتصام المفتوح أمام مبنى ماسبيرو الذى انتهى بعد أيام بنقلهم عبر أتوبيسات القوات المسلحة إلى ذلك المكان. على الجبل المصمت، كل ما يمكن للعين أن ترصده، هو شعلة النار الموقدة التى يجلس فى كنفها عدد من «العرباوية والبلطجية» الذين يُتاجرون فى المخدرات والسلاح بأفئدة باردة لا تخشى دبابير ونسور الشرطة، جبل «النهضة» هو الاسم الذى يطلقه السكان على هذا المرتفع، والذى يصفه «أحمد عبده»، أحد شباب منطقة «أم حنان» المجاورة للجبل: «النهضة الوحيدة اللى بتحصل فى الجبل هى نهضة الممنوعات»، ويخالجه يقين فى نفسه بأن «الداخلية» تعلم جيداً ما يحدث فى هذا الوكر لكنها تخشى مواجهة مُلاكه: «الظابط اللى بيطلع حملة على المنطقة دى.. يا يرجع يا مايرجعش.. وفى النهاية كل واحد خايف على نفسه»، أكثر ما يؤلم الشاب المتزوج قبل عام واحد هو ضياع بعض أصدقائه على أيدى تُجار المخدرات: «نص الشباب هنا بتشرب.. اللى هيروين.. واللى حشيش.. تلاقى العيل لسه مكملش 15 سنة وبيطلع الجبل فوق يجيب كيفه وينزل وكأنها بقت عادة». النقاش حول السياسة داخل الأتوبيس دار بين شباب الجامعة «المرَّفهين» حول القضية الفلسطينية وحرب غزة الأخيرة، بينما يُقاطعهم أحد الركاب الجالسين بقلب مُضطرب: «غزة إيه دلوقتى.. خلينا فى مصر واللى بيجرى فيها.. ربنا يعدى اليومين دول على خير»، يدخل أحد الملتحين فى المناقشة: «يا حاج أرضهم هى أرضنا.. ودول مسلمين زينا ولازم نساعدهم».. سأل أحد الركاب: «هى النهضة دى فاضلها كتير»، ليجيبه أحد الواقفين ساخراً بكلمات تحمل إسقاطاً سياسياً: «يدينا ويديك طولة العمر.. دى آخر الخط يا حبيبى». الليل يقترب من انتصافه، والهدوء يسيطر على المكان، ورائحة الدخان الناتج عن حرق المخلفات فى «مقلب» القمامة تملأ الجو، لا صوت يعلو فوق صوت «صرصور المياه» الذى أغرق العقارات المتهالكة، بينما يراقب المشهد سكان «المحتلة»، الذين لا يجدون أى سكينة فى ليلاهم، تغفو أعين الأمهات، فيما يجلس عم «خالد» ورجال المنطقة على سلالم عقاراتهم.. «اللجان الشعبية» المرتبطة بفترة الانفلات الأمنى عقب الثورة، ظلت ممتدة لنحو عام ونصف فى «المحتلة»: «لحد دلوقتى لو حد راح يزور قريبه ممكن يرجع يلاقى الشبابيك والأبواب متخلعة.. البلطجية ما بيرحموش».. النظرية التى ترسخت فى عقيدة عم «خالد» هى «من اعتدى عليك اعتدِ عليه بمثل ما اعتدى عليك»، بعدما رأى بأم عينيه بلطجية تبيع الشقة ب200 جنيه.. قبل نحو شهر استيقظت «أم محمد» -جارة عم «خالد»- على صوت تكسير فى الثانية بعد منتصف الليل، أطلت بحذر من خلف النافذة فوجدت عصابة ملثمة تسرق عفش جارتها وبمجرد أن لمحها اللصوص؛ توجهوا صوب باب شقتها طارقين عليه بالسنج لإرهابها «كانوا عايزين يخوفونى عشان ما أنطقش»، مرات عديدة حاولت فيها المرأة الأربعينية أن تجد حلاً لمشاكلها: «رحت رئاسة الوزراء أيام ما عصام شرف كان ماسك وشكينا لمدير مكتبه على اللى بيحصلنا، فرد علينا (خليكم جوه شققكم ومتسيبوهاش.. ولو حد بيتهجم عليكوا.. اتصرفوا معاه.. إنتوا أحرار مع بعض)». النهضة.. السلام.. العبور.. العاشر من رمضان و6 أكتوبر، هى الأسماء التى اقترحها الرئيس السادات تخليداً لمشروعاته فى الحرب والسلام.. «النهضة» هى الامتداد العمرانى لمدينة السلام التى تم تعميرها بشكل كبير عقب زلزال 1992، فى البداية كان مخططاً لها أن تكون مثالاً للمدن الجديدة القائمة على بناء مجتمعات تتم بفلسفة التنمية المستدامة التى تعتمد على الحق فى السكن والتعليم والصحة والعمل والرفاهية.. حسين متولى -رئيس مركز شفافية لحقوق الإنسان والباحث فى شئون العشوائيات- يؤكد أن تدهور الحال الذى وصلت إليه «النهضة» يعود لأكثر من سبب أولها أعمال الفساد التى كانت تقوم خلال عمليات تخصيص الأراضى والشقق السكنية الذى نتج عنه نوع من أنواع البلطجة، خاصة أن «النهضة» تقع ضمن المناطق المسيطر عليها من يطلقون على أنفسهم «عرب الصحراء» وكذلك كانت التركيبة السكانية لقاطنيها -من العمال والحرفيين الذين تم تهجيرهم إليها بسبب الزلزال- سبباً فى تدهور الحال بعد ابتعادهم عن أماكن رزقهم بوسط القاهرة، وهو ما يرجعه «متولى» لسوء التخطيط فى تلك الأماكن وبخاصة «النهضة» التى يقول عنها، إنه بمجرد أن يُردد اسمها يتلازم معه أصناف المخدرات والبلطجة وغياب الدولة. المدن العمرانية الجديدة تعلن دائماً وتداعب عملاءها بمُصطلح «المساحات الخضراء على نطاق واسع داخل المدينة»، وهو الأمر الموجود داخل «المحتلة»، غير أنه نتج «شيطانياً» بفعل مياه الصرف الصحى التى كادت تغرق العقارات.. تخرج الطفلة «ندى» من شقتها الكائنة بالدور الأرضى، المطلة على بحيرة كبيرة من «مياه المجارى»، ترقب بعينيها الصغيرتين البِركة الملوثة، محاولة القفز على أحجار متراصة بشكل عشوائى حتى لا تنغمس قدماها فى «الوحل»، غير أن محاولتها تبوء بالفشل، فالمسافة بين كل حجر والآخر تفوق ال«نصف متر»، ليكون السبيل الوحيد أن يحملها والدها ك«الرضيعة» على كتفيه.. أعمدة الإنارة موجودة بكثرة إلا أن «النور» رفاهية لم تستطِع الدولة توفيرها للسكان، الأمر الذى اضطر الأهالى لتوصيل أسلاك بشكل مباشر من الكبائن الموضوعة لأعمدة الإنارة.. «يعنى حضرتك هتلاقى عندى فى الشقة وصلة كهربا زى بتاعة زينة رمضان نازلة منها سلكة للتلاجة.. وواحدة للتليفزيون وزيهم للصالة والمطبخ، كل اللى بخاف منه البت الصغيرة لو قامت تشرب فى وسط الليل وأنا مش شايفها ممكن تتكهرب وتموت».. يحكى «عاطف» أحد قاطنى «المحتلة»، عن طريقة توصيلهم للكهرباء بعدما فقدوا الأمل فى إجابة المسئولين لاستغاثاتهم.. «مياه المجارى والجو الملبد بغيوم دخان القمامة» دعت «عاطف» إلى شراء مبيد للقضاء على الحشرات الطائرة التى تتسلل إلى شقته ليلاً: «كل يوم بجيب ب 3 جنيه أقراص ضد الناموس»، هذا علاوة على الثعابين وأصوات الضفادع التى التصقت بآذان «عاطف» وجيرانه، الذى يقول ساخراً من وضعه القاسى: «خلاص اتعودنا..مبنعرفش ننام غير على صوتها». الأطفال الصغار يمرحون دون اكتراث بواقعهم الأليم فمياه الصرف الصحى تجاورهم، والتلوث ليس بعيداً عن لهوهم، علاوة على نحو 27 فداناً قررت الدولة أن تمنحها لمصانع الأسمدة بجوار «النهضة»، غير أن الابتسامات لا تفارق شفاه «أحباء الله» غير عابئين بالأجواء المحيطة بهم.. «ليلى» بنت ال 7 سنوات تحب مدرستها رغم ال66 تلميذاً الموجودين داخل فصلها الصغير: «بابا عايزنى أطلع دكتورة وأنا بحاول أبقى شاطرة وماليش دعوة بالعيال المؤذين»، لكن كل الأطفال لا يتخذوا من «ليلى» مثالاً لهم، فكان طبيعياً أن يترك «عبدالله» مدرسته بعد وصوله للصف الرابع الابتدائى «عندنا فى المدرسة اللى معاه فلوس ينجح.. لكن اللى مبياخدش دروس مالوش نصيب»، على بُعد أمتار تجرى «بطة» التى لم تكمل عامها الثالث حافية القدمين حاملة فى يدها الصغيرة كيس «بوزو» إلى جوار شقيقها «محمد» الذى يفكر جدياً هو الآخر فى ترك الدراسة بعد وصوله للصف الثانى الإعدادى «مبتعلمش حاجة.. وهشتغل مع أبويا أحسن أجيبلى قرشين ينفعونى». فى تلك الشقة القابعة فى الدور الأرضى، التى لا تتخطى مساحتها 49 متراً، يُقيم عم «عبدالمنعم» وأولاده الثلاثة، بعدما تهدمت أركان منزله بالجمالية فى الزلزال الشهير الذى هز أرجاء مصر فى أكتوبر 1992، فكانت «النهضة» مُستقراً له، أمراض القلب والضغط التى داهمته لم تمنعه من مواصلة عمله فى النجارة التى يؤديها داخل غرفة صغيرة، اقتطعها بمنزله عقب وفاة رفيقة دربه، ليصبح البيت أشبه بورشة.. نظافة «النهضة» ليس لها وجود سوى على فاتورة الكهرباء التى يأتى بها «المحصل» كل شهر إلى شقة الرجل المنتمى لحزب الوفد سابقاً.. ورغم الظروف السيئة التى تُحيطه فإن نظريته فى الحياة: «أنام من غير عشا وأربط بطنى.. أو أشرب شوية مياه.. أحسن ما أستلف جنيه.. وبعدين كل الناس هنا حالها واحد.. هتروح لمين؟». الأتوبيس يفرغ من ركابه رويداً رويداً كلما اقترب من محطة «النهضة»، بينما تتهلل أسارير «طارق سمير» كُمثرى الأتوبيس الذى ظل لأكثر من ساعتين ونصف يُهاود الركاب حتى تنتهى الرحلة دون «مشاكل»، الرجل الثلاثينى من سكان المنطقة، متزوج ولديه من الأبناء أربعة، يعانى مما يُعانيه أهل المنطقة من سوء خدمات وعشوائية متناهية: «الأساسى بتاعى 400 جنيه.. يكفوا إيه دول؟»، بينما يعتدل «حمدى» السائق فى جلسته استعداداً لمغادرة ذلك الكرسى: «لازم نستحمل الركاب على قدّ ما نقدر.. كل واحد عنده همومه»، بينما يدخل متسللاً «عصمت محمد غنيم» -ناظر المحطة- متسائلاً عن سبب تأخر وصولهم، الرجل هو الآخر يسكن فى حى النهضة الذى يقول عنه: «ده عبارة عن مكان لموا فيه كل المجرمين ومسجلين الخطر».. الرجل الخمسينى يُقيم فى «مساكن الصعيد» يرى أن كل مكان فى المنطقة له من اسمه نصيب: «فيه مناطق العيشة فيها مُرة زى عزبة القرود.. العرب.. أم حنان.. المحتلة.. كلها أوباء وإجرام.. لكن النهضة دى اسم جه عندنا غلط».