هل هناك من هو أكثر راديكالية من ريجيه دوبرييه؟ هل هناك موقف أكثر ثورية من أن مثقفا فرنسيا يترك حياته المريحة في بلده ويسافر إلي بوليفيا، كي يقاتل مع تشي جيفارا في الأدغال؟ ما الذي نعلمه عن ريجيه دوبرييه؟؟ كتاب وحيد ترجم إلي العربية من تأليفه، "الثورة في الثورة"، كتبه وقت نضاله الثوري، وتحول إلي أحد الكتب الأيقونة التي يتم تداولها في بعض الدوائر اليسارية، بالإضافة إلي بعض المساهمات البحثية والفكرية والنظرية. عام 1967، وخلال محاصرة قوات الجيش البوليفي ورجال المخابرات المركزية الأمريكية لمجموعة من رجال حرب العصابات في إحدى الغابات، تم القبض بالقرب من المنطقة علي شخصين.. ريجيه دوبرييه ورجل أرجنتيني أسمه "ثيرو بوستوس". يقال إن المخابرات الأمريكية وكذلك جنرالات الجيش البوليفي لم يكونوا علي يقين من وجود تشي جيفارا أصلا في هذا البلد، حتي لحظة القبض علي هذين الرجلين. بالعكس كانت هناك شكوك بأن تشي قد قتل في الكونغو. لكنهم استطاعوا بعد أيام من القبض عليه في نفس هذه الرقعة من الغابات، تأكدوا من هويته وأعدموه. تقول الحدوتة المستقرة في أمريكا اللاتينية وأوروبا أن ثيرو بوستوس قد ضعف، واعترف بأن تشي موجود بين هذه المجموعة. وبذلك سهل مهمة القبض علي الزعيم الثوري وإعدامه، هو ومن كانوا برفقته. أما هو ودوبرييه فقد حكم علي كل منهما بثلاثين سنة من السجن. بعد حملة دولية للتضامن مع المثقف الثوري الفرنسي، حصلا علي عفو، وخرجا من بوليفيا إلي تشيلي. تم استقبال الفرنسي من قبل الرئيس سلفادور الليندي باعتباره بطلا في أفخر فنادق العاصمة. ظل هناك بعض الوقت ثم توجه إلي كوبا لمقابلة صديقه كاسترو، وتحول لبطل بالنسبة لقطاعات واسعة من اليسار الأوروبي. بينما تجاهل الجميع ثيرو بوستوس الخائن. لم يقابله أحد، ولم يتجرأ أي صحفي وقتها علي إجراء ولو حوار قصير معه. فرحل إلي السويد ليعيش سنوات طويلة بلعنة أنه "يهوذا" الذي سلم أيقونة الثورة العالمية تشي جيفارا، وتسبب في مقتله، وفي بداية انحسار موجة حرب العصابات في أمريكا اللاتينية. الاثنان.. بوستوس ودوبرييه.. لا يمكنهما نسيان جملة تشي التي تتردد دائما في أذهانهما، وتتردد كذلك علي لسان الكثير من الثوار: "الثوري ليس شخصا عاديا"! لم تنته الحدوتة هنا، فقد مرت عقود، وتحدث البعض، ومن ضمنهم بوستوس نفسه، ليكشفا بعض جوانبها الأخري. النسخة الأخري من الحدوتة تسير في اتجاه أن تشي لاحظ علامات رعب دائم علي المثقف الفرنسي، فقرر إبعاده عن المعسكر، وكلف ثيرو بوستوس بمصاحبته للمدينة والعودة بمفرده، وهنا تم القبض عليهما. نفس هذه النسخة من الحدوتة تؤكد علي أن الاثنين قد تحدثا وقاما بالوشاية، وأن ريجيه دوبرييه كان هو الشخص الذي بادر بالاعتراف. هذه النسخة من الحدوتة تعتمد من بين دلائل أخري علي خطاب سري موقع من ريجيه دوبرييه، أرسله إلي محاميه، ليخبره بأن هناك اتفاقا بينه وبين المخابرات المركزية الأمريكية علي أنه لا يمكن القول بأنهم كانوا يعلمون بوجود التشي في بوليفيا قبل لحظة القبض عليه. أنها حدوتة من ضمن الحواديت متعددة الأوجه بشكل مربك!! لكن اللعنة في هذه النوعية من الحواديت لا يمكن أن تصيب البطل، وبالذات إن كان أوروبيا. الرجاء تجاهل تفاصيل إن كان الاثنان قد اعترفا أم أحدهما فقط، ومن الذي اعترف في البداية.. لأن الأهم هو المصير. مصير بوستوس هو العيش وحيدا مع كلبه ورسوماته في مدينة باردة ومنعزلة، والسير يوميا لعدد من الساعات دون هدف. ومصير دوبرييه هو تحوله إلي مثقف ومفكر مرموق، مشهور دوليا، طور أفكاره ليبدأ في خصومة فكرية مع مشروعي الثورة والاشتراكية. دعك من هذا، فربما كانت تطوراته وتحولاته الفكرية طبيعية. لكن التفصيلة الأهم في مصيره هي عمله كمستشار للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لشؤون السياسة الخارجية في العالم الثالث!! بالإضافة إلي تعيينه عضوا في مجلس مستشاري الدولة!!! رئيس الجمهورية الفرنسية "البرجوازية"!! التي من المفترض أنه عدوها!!السياسة الخارجية الفرنسية في العالم الثالث!! هل كانت سياسة تحررية؟؟ تقدمية بأي شكل من الأشكال؟؟ الله أعلم. شاهدت منذ أكثر من عشرة أعوام فيلما تسجيليا بعنوان "تشي.. مفاتيح عن موته"، يظهر فيه الكثيرون من المرتبطين بقصة القبض علي التشي وقتله، من ضمنهم ثيرو بوستوس، وضابط المخابرات الأمريكية والجنرال البوليفي اللذان قبضا عليه، والجندي الذي أطلق الرصاص علي الأيقونة الثورية، ويظهر كذلك في مشهد وحيد من الفيلم ريجيه دوبرييه رغما عنه، بعد ملاحقة فريق الفيلم له. المثقف الثوري "بإستايل الستينات" كما يظهر في مواد الأرشيف التي تؤرخ لهذه الفترة تحول إلي مثقف أنيق، واثق من نفسه، لديه شعور طاغ بالنجومية، ويتحدث بتعال.. (سيبك من كل الكلام الفارغ في الجملة اللي فاتت.. دي انطباعاتي ككاتب مقال بيحاول يأثر فيك بأحكام شخصية مالهاش دعوة بالقصة).. ويؤكد أمام الكاميرا أنه لا يتذكر أي شئ عن هذه الفترة بمجملها!! ويصفها بالصفحة التي تم إغلاقها. (هل من الممكن أن ينسي المفكر؟؟ هل من الممكن أني ينسي صداقته للتشي وزمالته له في حرب العصابات وموت أهم أيقونة ثورية في عصرنا؟؟ هل من الممكن أن ينسي القبض عليه وحياته في السجن لمدة ثلاثة أعوام؟؟).. ويضيف ريجيه دوبرييه بابتسامة – قرأتها كابتسامة مستهترة: ربما أكون قد اعترفت.. لكن بوستوس اعترف قبلي. "الثوري شخص غير عادي".. هذه هي جملة التشي جيفارا. هل الثوري شخص غير عادي؟؟ أم أنه شخص عادي جدا؟؟ جميعنا من الممكن أن نضعف ونعترف يا صديقي.. جوهر الحدوتة لا يكمن في هذه المنطقة، بل في ضرورة أن تكون حذرا.. أن تحترس. بص في عين زميلك، ولما تلاقيه بيقول الشعار الزاعق المستسيخ علي الجميع، فكر فيه شوية، قبل ما توصفه بالثوري العظيم.. لحسن تلاقيه بعدين بيشتغل مع فرانسوا ميتران.