"إنني أحسّ على وجهي بألمِ كلِّ صفعةٍ تُوَجَّه إلى مظلومٍ في هذه الدنيا، فأينما وُجِدَ الظلمُ فذاك هو موطني".. تلك كانت كلمات البطل الفذّ الذي عشقه الملايين، والمناضل الثوري الكبير تشي أرنستو جيفارا الذي يوافق يوم الثامن من أكتوبر يوم رحيله بعد أن سقط في إحدى غابات بوليفيا مدافعا عن حرية الإنسان، وبعد أن عاش حياة مناضل من أشرف وأنبل المناضلين الذين عرفهم التاريخ.. المولد والنشأة وُلِد جيفارا في الرابع عشر من أغسطس عام 1928 بمدينة "بوينس أيريس" عاصمة الأرجنتين، لأسرة برجوازية ميسورة الحال، حيث كان أبوه يعمل مهندسا معماريا، وأمّ عُرفت بأنها مثقفة ونشطة وهي التي نفخت في الفتى من روحها الشغوف بتاريخ الأرجنتين، بل وأمريكا اللاتينية كلها.. وربّته على سِيَر المحرّرين العظام أو "آباء الوطن"، وعلى قصائد الشعر لا سيما الشعر الإسباني والأدب الفرنسي.. وكان بطبيعة عمل والده متنقلا بين ربوع القارة، وقضى آخر أيامه في كوبا، التي شهدت فيما بعد أولى تحركات جيفارا الثورية.. الثوري المريض ومهنة الطب لم يعرف العالم ثوريا مريضا مثل ما كان الحال مع جيفارا، فقد كان يعاني حالة من حالات الربو المُزمن، الأمر الذي كان يدعوه لممارسة الرياضة بانتظام؛ ليستطيع أن يتغلب على هذا المرض، ويجد طريقا للتعايش معه في هذه الفترة من الزمن، وليس عجبا لهذا الفتى المريض أن يكون طبيبا فيما بعد يلمس من خلال مهنته الإنسانية كل أوجاع الفقراء، وأمراض المجتمع المادية والمعنوية.. ولنعرف من أي منطق كان يمارس هذه المهنة كان علينا أن نتطلّع إلى كلماته التي خلّدتها ذاكرة التاريخ حين قال: "إنّ حبي الحقيقي الذي يرويني ليس حب الوطن والزوجة والعائلة والأصدقاء، إنه أكبر من هذا بكثير.. إنه الشعلة التي تحترق داخل الملايين من بائسي العالَم المحرومين، شعلة البحث عن الحرية والحق والعدالة". ذلك هو الطبيب الثوري الذي عرف دواء هذا العالم وأنّ شفاء البائسين من الناس في شتّى بقاع العالم هو دواء تتكون مادته الفعالة من ثلاثة عناصر هي الحرية والحق والعدل.. الدرّاجة التي أشعلت الثورة أما عن الشرارة التي أشعلت روح الثورة داخل جيفارا فقد كانت درّاجته البخارية، تلك الدرّاجة التي مكّنته عام 1947 من أن يصحب طبيبا أكبر منه سنا ليجوبا أرجاء القارة وليلمسا معا ويعيشا معاناة الفقراء المطحونين المهزومين نفسيا، والذين يسقطون صرعى قاطرة الرأسمالية التي لا ترحم أحدا.. ومن بعد هذه الرحلة عرف جيفارا أن له عملا يستطيع أن يقدّمه لا لوطنه فقط بل للإنسانية جمعاء.. وأدرك أن بداية حصول الشعوب على حقوقها هو الثورة ضد الظلم والاستبداد والاستعمار.. والوقوف بقوة أمام الطغيان.. وعاد جيفارا من رحلته ليحصل عام 1953 على إجازته الطبية، ثم يقوم بعد ذلك برحلته الثانية، ولكن إلى جواتيمالا هذه المرة، حيث ساند رئيسها الشاب الذي كان يقوم بمحاولات إصلاح أفشلتها تدخّلات المخابرات الأمريكية، وقامت ثورة شعبية تندّد بهذه التدخّلات؛ الأمر الذي أدّى لمقتل 9 آلاف شخص، فآمن الطبيب المتطوّع أن الشعوب المسلحة فقط هي القادرة على صنع مقدّراتها واستحقاق الحياة. جيفارا ومعضلة الزواج ورفقة السلاح في عام 1955 قابل جيفارا "هيلدا" المناضلة اليسارية من بيرو في منفاها في جواتيمالا، فتزوّجها وأنجب منها طفلته الأولى، ثم غادر جيفارا جواتيمالا إثر سقوط النظام الشعبي بها بفعل الضربات الاستعمارية التي دعمتها الولاياتالمتحدة، مصطحبا زوجته وطفلته الأولى إلى المكسيك التي كانت آنذاك ملجأ جميع الثوار في أمريكا اللاتينية. تشي جيفارا، هكذا كانوا يلقّبونه، وكلمة "تشي" تعني رفيق السلاح، وهذا ما تحقق مع فيدل كاسترو وجيفارا، فقد كان الانقلاب العسكري في كوبا في 10 مارس 1952 سبب تعارف جيفارا و"فيدل كاسترو"، واتفق الاثنان على مبدأ "الكفّ عن التباكي، وبدء المقاومة المسلّحة". اتجها إلى كوبا، وبدأ الهجوم الأول الذي قاما به، ولم يكن معهما سوى ثمانين رجلا لم يبقَ منهم سوى 10 رجال فقط، بينهم "كاسترو" وأخوه "راءول" وجيفارا، ولكن هذا الهجوم الفاشل أكسبهم مؤيدين كثيرين خاصة في المناطق الريفية. وظلت المجموعة تمارس حرب العصابات لمدة سنتين حتى دخلت العاصمة هافانا في يناير 1959 منتصرين بعد أن أطاحوا بحكم الديكتاتور "باتيستا"، وتزوج من زوجته الثانية "إليدا مارش"، وأنجب منها أربعة أبناء بعد أن طلّق زوجته الأولى. وقتها كان جيفارا قد وصل إلى أعلى رتبة عسكرية (قائد)، ثم تولى بعد استقرار الحكومة الثورية الجديدة -وعلى رأسها "فيدل كاسترو"- مناصب قيادية، ومن مواقعه تلك قام جيفارا بالتصدي بكل قوة لتدخلات الولاياتالمتحدة؛ فقرر تأميم جميع مصالح الدولة بالاتفاق مع "كاسترو"؛ فشددت الولاياتالمتحدة الحصار، وهو ما جعل كوبا تتجه تدريجيا نحو الاتحاد السوفيتي وقتها، كما أعلن عن مساندته حركات التحرير في كل من: تشيلي، وفيتنام، والجزائر. الثوّار لا ينامون على الوسائد الحريرية وهكذا استقر الأمر وشغل الرجل أعلى المناصب فهل يركن إلى مشوار كفاحه ويكتفي بما قدمه؟ ربما كان هذا حال الكثيرين من المناضلين لكنه أبدا لم يكن حال جيفارا.. فقد ضاق بالوسائد الحريرية ورفض التصرفات القمعية من حكومة "كاسترو" ضد الشعب الذي أراد تحريره، فاختفى من الساحة وهاجر بمفرده حتى يساند الثورات في إفريقيا وليساعد الشعوب الفقيرة البائسة على التحرّر والخروج من استعباد الحكومات الظالمة. خرج الرجل وهو يطلق في قلبه وعقلة مقولته: "أحلامي لا تعرف حدودا.. كل بلاد الأرض وطني، وكل قلوب الناس جنسيتي، فلتسقطوا عني جواز السفر". وذهب جيفارا لإفريقيا مساندا للثورات التحررية، قائدا ل125 كوبيا، ولكن فشلت التجربة الإفريقية لأسباب عديدة، منها عدم تعاون رؤوس الثورة الأفارقة، واختلاف المناخ واللغة، وانتهى الأمر بجيفارا في أحد المستشفيات في "براج" للنقاهة، وزاره "كاسترو" بنفسه ليرجوه للعودة. بعد إقامة قصيرة في كوبا إثر العودة من زائير اتجه جيفارا إلى بوليفيا التي اختارها، ربما لأن بها أعلى نسبة من السكان الهنود في القارة. لم يكن مشروع جيفارا خلْق حركة مسلحة بوليفية، بل التحضير لرصّ صفوف الحركات التحررية في أمريكا اللاتينية لمجابهة النزعة الأمريكية المستغلة لثروات دول القارة. وقد قام جيفارا بقيادة مجموعة من المحاربين لتحقيق هذه الأهداف، وقام أثناء تلك الفترة الواقعة بين 7 نوفمبر 1966 و7 أكتوبر 1967 بكتابة يوميات المعركة. وعن هذه اليوميات يروي "فيدل كاسترو": "كانت كتابة اليوميات عادة عند جيفارا لازمته منذ أيام ثورة كوبا التي كنا فيها معا، كان يقف وسط الغابات وفي وقت الراحة يمسك بالقلم يسجّل به ما يرى أنه جدير بالتسجيل، هذه اليوميات لم تُكتب بقصد النشر، وإنما كُتبت في اللحظات القليلة النادرة التي كان يستريح فيها وسط كفاح بطولي يفوق طاقة البشر". الموت الذي يهب الخلود في يوم 8 أكتوبر 1967 وفي أحد وديان بوليفيا الضيقة هاجمت قوات الجيش البوليفي المكونة من 1500 فرد مجموعة جيفارا المكونة من 16 فردا، وقد ظل جيفارا ورفاقه يقاتلون 6 ساعات كاملة وهو شيء نادر الحدوث في حرب العصابات في منطقة صخرية وعرة، تجعل حتى الاتصال بينهم شبه مستحيل. ويُحكى عن واقعة موته أن جيفارا قد استمرّ في القتال حتى بعد موت جميع أفراد المجموعة رغم إصابته بجروح في ساقه، إلى أن دُمّرت بندقيته، وضاع مخزن مسدسه، وهو ما يفسّر وقوعه في الأسر حيا. نُقل جيفارا إلى قرية "لاهيجيراس"، وبقي حيا لمدة 24 ساعة، ورفض أن يتبادل كلمة واحدة مع من أسروه. وفي مدرسة القرية نفّذ ضابط الصف "ماريو تيران" تعليمات ضابطيه: "ميجيل أيوروا" و"أندريس سيلنيش" بإطلاق النار على جيفارا، دخل "ماريو" عليه مترددا فقال له جيفارا: أطلق النار، لا تخف؛ إنك ببساطة ستقتل مجرد رجل.. ولكنه تراجع، ثم عاد مرة أخرى بعد أن كرّر الضابطان الأوامر له، فأخذ يطلق الرصاص من أعلى إلى أسفل تحت الخصر حيث كانت الأوامر واضحة بعدم توجيه النيران إلى القلب أو الرأس حتى تطول فترة احتضاره، إلى أن قام رقيب ثمل بإطلاق رصاصة من مسدسه في الجانب الأعلى فأنهى حياة البطل. أما عن الجثمان فقد أفاد أحدهم أن الجنرال "أوفاندو" أخبره بأن الجثمان قد تمّ إحراقه، وتعددت الأقاويل بشأن الجثمان الذي آثر الأمريكان عدم تحديد مكانه حتى لا يكون شاهده مزارا للثوار في العالم. وقد قامت مظاهرات في العديد من دول أمريكا الجنوبية كان سببها الاحتجاج الشديد على قتل جيفارا، وكان مقصد المظاهرة السفارات الأمريكية والمواطنين الأمريكان. وهكذر رحل البطل المناضل، بعد أن سطر في تاريخ الإنسانية قصة لكل من يتطلع إلى الحرية، ولكل ثائر في وجه الظلم، وقد ترك حكمة للذين يضحّون بأنفسهم من أجل الإنسانية: "لا يهمني متى وأين سأموت، بقدر ما يهمني أن يبقى الثُّوَّار يملأون العالَم ضجيجاً كي لا ينام العالَم بثقله على أجساد الفقراء والبائسين والمظلومين".
جوليا بطرس تنعي جيفارا
إضغط لمشاهدة الفيديو: الشيخ "إمام" ينعي جيفارا بكلمات أحمد فؤاد نجم