يحلو للبعض أن يخلط الأوراق، فلا يفرق بين »أرنستو جيفارا« و»أسامة بن لادن«.. حتي ينحدر به الأمر إلي إضفاء لقب »جيفارا العرب« علي الأخير.. وبداية فلا وجه لهذا التخليط المقيت. فأرنستو شي جيفارا، وهذا هو بالكامل اسم المناضل المنحدر من أرصل أرجنتيني، لم يلطخ سمعته بالتعامل مع أجهزة الأمن الأمريكية، خاصة المخابرات المركزية، كما فعل »بن لادن« أثناء كفاح الشعب الأفغاني ضد قوات الاحتلال السوفيتي علي أرض أفغانستان.. وفضلاً عن ذلك ف »جيفارا« لم يجنح طوال سنوات كفاحه سواء علي أرض قارة أمريكا الجنوبية أو علي أرض جزيرة كوبا، إلي إثارة الفتن الطائفية، كما فعل »بن لادن« وتنظيمه المعروف تحت اسم »القاعدة« بتحريضه السنة علي قتل الشيعة، وبإشاعته الفرقة بين المسلمين والمسيحيين.. وفوق هذا تقسيمه العالم إلي فسطاطين، أحدهما فسطاط الإسلام، والآخر فسطاط الكفار وقوله بحتمية الحرب بين الفسطاطين، واستمرارها إلي أن يكتب لفسطاط الإسلام النصر المبين علي الأرض ومن عليها شرقاً وغرباً.. والحق أن الفروق بين الاثنين أكثر من أن تعد وتحصي. فعلي سبيل المثال لا أعتقد أن أحداً من مريدي »بن لادن« سيسعي إلي ترجمة سيرته في عمل سينمائي من أي نوع كان، فهو بحكم تفسيره للإسلام كان معادياً للصورة المتحركة وتحويلها إلي أفلام روائية، هي عنده في حقيقة الأمر ليست إلا من فعل الشيطان. ومن هنا تحريم السينما في أفغانستان وقت أن كانت موطناً له وللقاعدة، إمارة محكومة بطالبان. ولأن فكر »شي جيفارا« ونظرته إلي الوجود، علي العكس من ذلك تماماً فسيرته منذ مقتله في بوليفيا »9 أكتوبر 1967« وحتي يومنا هذا، كانت موضوعاً لثلاثة أفلام.. من بينها اثنان لمخرجين أمريكيين.. أما الثالث فلمخرج برازيلي »والتر ساليس« وأقلها صدقاً، ومن ثم أضعها من الناحية الفنية فيلم »شي« عام 1969 لصاحبه المخرج الأمريكي »ريتشارد فلايشي«. وفيه أسند دور »جيفارا« لعمر الشريف، أما دور مفجر الثورة الكوبية »فيدل كاسترو« فأسنده إلي »جاك يالانس« وهو ممثل اعتاد جمهور السينما الأمريكية مشاهدته مؤدياً علي خير وجه، دور شرير الشاشة لا يضارعه في ذلك إلا نفر قليل. وعلي كل، فكلاهما »عمر« و»يالانس« لم يكن اختياره موفقاً بأي حال من الأحوال وكان أداؤهما بحكم ذلك لدوري »جيفارا« و»كاسترو« أثقل من جبل »أُحد«.. ونظراً إلي فشل الفيلم فشلاً ذريعاً قل الاهتمام بترجمة سيرة »جيفارا« مرة أخري إلي لغة السينما. وبقي الحال كذلك زهاء خمسة وثلاثين عاماً إلي أن أفلح المخرج البرازيلي »ساليس« في ترجمة اليوميات التي كتبها »جيفارا« عن رحلة قام بها، برفقه صديق علي دراجة بخارية، بدءاً من الأرجنتين »4 يناير 1952«.. مروراً بشيلي، فبيرو، فكولومبيا، وانتهاء بفنزويلا »يوليه 1952«.. ترجمتها في فيلم تحت الاسم الذي اختاره لها جيفارا »يوميات دراجة بخارية«.. وقد صادف التوفيق مخرج الفيلم في اختياره الممثل الصاعد الواعد »جابيل جارسيا برنال« لتقمص شخصية »جيفارا« وقت أن كان شاباً، ليس له من العمر سوي ثلاثة وعشرين عاماً.. ومن علامات التوفيق ترشيح الفيلم لجائزتي أوسكار أفضل سيناريو مأخوذ عن عمل آخر، وأفضل موسيقي تصويرية وأغنية.. وفوزه بالجائزة الثانية »2005«.. ومن خلال اليوميات كما عرضها الفيلم في ساعتين وست دقائق، نري كيف اكتشف »جيفارا« أمريكا الجنوبية، علي الطبيعة فإذا به يصدم بالبؤس البائس في مناجم النحاس بشيلي، وبمرض الجزام في بيرو، وغير ذلك من عاديات الزمان.. وأغلب الظن أنه لولا تلك الرحلة الفريدة، لما تحول »جيفارا« وهو من أسرة مرتاحة، إلي نصير للمعذبين في أرض القارة التي عانت كثيراً. هذا ولم تمض سوي أربعة أعوام علي نجاح الفيلم البرازيلي، إلا وكان المخرج الأمريكي المجدد »ستيفين سودربرج« مبدع فيلمه المكون من جزئين، يمتد عرضهما زهاء مائتي وثماني وستين دقيقة، والفيلم اسمه »شي«، وبطولته انعقدت للممثل القدير بينيتو دل تورد« الذي أدي دور »جيفارا« بجدارة، أهلته للفوز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان 2008. والجزء الأول يبدأ به مبحراً، مع »كاسترو« إلي جزيرة كوبا في رفقة ثمانين ثائراً والهدف إسقاط نظام الطاغية »باتيستا« وأثناء النضال وبفضله تعلم فن حروب العصابات، وصعد من مجرد طبيب إلي مرتبة قائد عسكري، فبطل من أبطال ثورة تحرير كوبا من الفساد والطغيان.. فإذا ما انتقلنا إلي الجزء الثاني فسنراه وهو في قمة السلطة والشهرة، بعد انتصار الثورة، يختفي فجأة، دون سابق إنذار، وها هو ذا يظهر متخفياً في أحراش بوليفيا، حيث ينظم جماعة صغيرة من الرفاق الكوبيين والبوليفيين، بأمل إشعال نار الثورة بطول وعرض أمريكا اللاتينية. ورغم الشجاعة والتضحية والمثالية والعزم والإصرار، رغم كل ذلك، يفشل جيفارا ورفاقه البواسل، في تحريك الجماهير، ويلقي مصرعه بأيدي قذرة ملوثة بالدماء.. ويتحول إلي أسطورة »تتغني بها الأجيال«.