الزمان: نوفمبر 1995 المكان: المسرح الكبير بدار الاوبرا المصرية الحدث: المؤتمر الرابع للموسيقي العربية ينتظر الحضور في لهفة صعود العملاق وديع الصافي علي خشبة المسرح، آملين في ليلةٍ لا تُنسَي كعادته، يُشنّف فيها آذانهم بما لذ و طاب من حنجرته الذهبية .. يصعد وديع و تصعد بعده سيدة شابة لا يعرفها أحد لتجلس إلي جواره، لم يهتم أحدٌ بها، فالمهم أن صوت الجبل بلحمه وشحمه علي وشك أن يبدأ الليلة والتي كانت لتكريم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. ليلي.. يجيبه صوت و هو يردد معه: من الهاتف الداعي؟ أقيس أري ؟ آه!! مجنون ليلي إذن، رائعة أحمد شوقي و محمد عبد الوهاب التي غنّاها بمصاحبة أسمهان أو أهم دويتو عربي حسب وصف البعض.. يُداعب وديع الجمهور كعادته حين يصل إلي "أودي الرياح به والضيف والجار" لينادي "ليلي" ويرد علي نفسه : "قيس" فتضحك السيدة بجواره و الجمهور لا يفهم , ماذا تفعل هي إن كان سيغني هو وحده ؟ يهمس لها وديع بالكلمات علي الرغم من إمساكها بورقة تقرأ منها، وهنا استشعر الحضور أن الأمر لا يُبشّر بالخير فهي لا تعرف حتي الكلمات لم يكد يبدأ الجمهور في تلك التصورات إلا وانتابتهم قشعريرة مفاجئة، فقد نطقت السيدة أخيراً أول جملة لها قائلةً: "ما وراء أبي" لتضج القاعة بتصفيق حاد لم يحظ به وديع نفسه. من هي هذه الساحرة التي استطاعت بترديدها لثلاث كلمات أن تُذهل جمهور سميع كهذا ممن اعتاد الذهاب لحفلات مؤتمر الموسيقي العربية، وسماع أعتي المطربين ثم تغرقه في بحار من طرب عجيب لم يصادفه منذ زمن بعيد؟ إنها "رُبَي الجَمال" أو "زوفيناز خجادور قَرَبتيان"، مطربة سورية من مواليد عام 1966 لأب حلبي أرميني الأصل وأم لبنانية وافتها المنية بعد ولادة ابنتها بثماني شهور فقط ليكون هذا الحدث هو أول أحزانها التي ظلت تتراكم طوال حياتها.. يتزوج بعدها والدها بسيدة أخري وقت أن كان عُمر "ربي" خمس سنوات لينجب منها أخ و أخت غير أختها من أمها.. لم توافق العائلة في البداية علي أن تصبح ابنتهم الوحيدة مطربة ولذا رضخت "ربي" لرغبتهم و درست الطب في فرنسا لفترة قصيرة، لكن حلم الغناء ظل مسيطراً عليها حتي أنها شاركت أثناء تواجدها بفرنسا في أحد المسابقات الأوبرالية وحازت علي المركز الأول بين أكثر من ثلاثين متسابقة من مختلف بلدان العالم، وأُعجَب بها الكثيرون هناك كصوت "سوبرانو" متميز ولا عجب في ذلك , ف "ربي" درست الغناء و الموسيقي في طفولتها أثناء تواجدها بالأردن للدراسة في أحد المعاهد التابعة لدير راهبات الوردية، وهناك تتلمذت علي يد أستاذ موسيقي روسي ظل يُدرّبها حتي بعدما تركت الدير دونما مقابل إيماناً منه بموهبتها، ولكنها فضّلت بعدئذ الإنغماس في الغناء الشرقي فقط ليتسلّمها الملحّن الفلسطيني الأصل "رياض البندك" في بدايات الثمانينات ليلحّن لها مجموعة من الأغاني ويعقبه الكثير من الملحنين أمثال: سهيل عرفة، سعيد قطب و الذي لحّن لها قصيدة "لماذا تخلّيت عنّي" من كلمات الشاعر "نزار قباني"، نجيب السراج، صفوان بهلوان، وماجد زين العابدين والذي لحّن لها الألبوم الأخير بعنوان "ليالي العمر" ولها غيره علي المستوي الرسمي ألبوم آخر هو " فاكر و لا ناسي" - رابط لدويتو "مجنون ليلي" من حفل دار الأوبرا مع الراحل وديع الصافي يعقبه دويتو آخر لهما أيضاً هو "ما أحلي الحبيب" و الذي غنّاه عبد الوهاب مع "نجاة علي": http://www.youtube.com/watch?v=bnZndovGA6A - رابط لقصيدة "لماذا تخليت عني" : http://www.youtube.com/watch?v=m9AgEuT5EFg يراها الكثيرون كمزيج عجيب من "أم كلثوم" و "أسمهان" شاء القدر -من وجهة نظر هولاء الكثيرون- أن يظهر في وقت "الفيديو كليب" والتنازلات و الإنحلال من أصولنا الموسيقية الشرقية الأصيلة؛ فأبت هي إلا أن تظل علي حالها و ثباتها علي غناء كل ما هو أصيل من أعمال "الست" علي وجه الخصوص، وبعيداً عن صراع الأصيل والدخيل، لن ينسى كل من شرف بحضور حفلها في دار الأوبرا المصرية مع الفرقة القومية للموسيقي العربية بقيادة "سليم سحاب" والتي صالت و جالت فيها في أداء واحدة من أصعب أغنيات "الست" ألا وهي "افرح يا قلبي" وهي الأغنية التي "نشّذت" مُطربات كثيرات -إن صح التعبير- في أدائها كالمُطربة التونسية الشهيرة جداً في مصر والتي تفتخر كثيراً بأدائها "النشاذ" لتلك الرائعة وتُصر علي غنائهافي كل لقاء أو حفل؛ " كما غنّت ربى في مناسبات أخري كحفلاتها في كازينوهات لبنان وسوريا أغاني أخري مهمة للست مثل "انت عمري"، "يا ليلة العيد" ، "عودت عيني علي رؤياك "، اسأل روحك"، "الأطلال"، "رباعيات الخيّام"، "يا ظالمني" و " الأوّلة في الغرام" رائعة بيرم التونسي و زكريا أحمد والتي يعتبرها المحللون لتاريخ "أم كلثوم" واحدة من أبدع وأصعب ما شدت به "الست" حتي أن الكثيرات من المطربات الناشئات في دور الأوبرا يفضّلن عدم التعرّض لتلك الأغنية منعاً للإحراج ، و لكنّها لم تستعصِ علي "ربي"، بل علي النقيض زادتها حلاوةً و ألماً في النفس! - رابط ل "افرح يا قلبي" من دار الأوبرا المصرية : http://www.youtube.com/watch?v=m-61w_xQ51Q - رابط ل "اسأل روحك" : http://www.youtube.com/watch?v=QoSlV41m8E8 - رابط ل "رباعيات الخيام" : http://www.youtube.com/watch?v=kJ9pnyQfEvc - رابط ل "الأوّلة في الغرام" : http://www.youtube.com/watch?v=248OyurQfnw - رابط لمقطع من "الأطلال" في شبابها: http://www.youtube.com/watch?v=hyZ-8kcljJU - رابط ل "يا ظالمني" : http://www.youtube.com/watch?v=9nAHp3L1sFk عرفها الجميع حزينة دوماً، تستطيع أن ترى ذلك الحزن متجسداً في عينيها وقد أُشيع أن السبب في ذلك هو قصة زواجها التي باءت بالفشل بعد خمسة أعوام أثمرت عن ولدها الوحيد "رامي" ونفسيّة هشّة رقيقة لم تحتمل ضغوط الحياة، وربما لم تحتمل إحساسها بعدم التقدير والإحتفاء بفنها في الوقت الذي كان يتم فيه التهليل لمطربات لا يستطعن الإتيان "بكَحَّة" حتي مثلها! كانت عصبية المزاج وأشاعوا بأنها مُدمنة علي المهدئات لتخفف من أمر عصبيتها، لكنها ما أن تصعد إلي المسرح أو تشرع في الغناء حتي تراها وكأنما تحاول التخلّص من كل ما يعتريها في حياتها داخل كلمات الأغنية كلهجها الأخّاذ في المقطع الأسطوري " اسعفيني يا عين" في "الأولة في الغرام" أو "ها الدمعة قسمتنا، مكتوبة عالميلاد..شمعة ورا شمعة عم تنطفي و تنقاد" من إحدي أغنيات ألبومها الأخير "صبّرني يا قلبي" والتي كانت آخر كلمات تغنّت بها في حياتها! - رابط لأغنية "صبّرني يا قلبي" : http://www.youtube.com/watch?v=1W4DMVzbQ90 النهاية الأليمة (2005) كانت "ربي" بصدد إطلاق ألبوم جديد هو ألبوم "ليالي العمر" من ألحان الفنان والملحن السوري ماجد زين العابدين والذي لحّن لها تلك الأغاني بنكهة "سُنباطيّة" تليق بصوتها، و كان قد نسّق وقتها مع التلفزيون السوري أن تغني "ربي"أغاني الألبوم في حفل فني ساهر في فندق إيبلا الشام، و تمت دعوة العديد من الصحفيين و الإعلاميين والمقربين و كان المايسترو الذي سيرافقها في الحفل هو ماجد سراي الدين وفرقته التيكانت تحمل اسم ليالي الشرق، وقد كان واضحاً قبل الحفل أن هناك تفاوتاً في المستويات بينها وبين الفرقة, ففي أحد البروفات وأثناء أدائها لأغنية "حبيبي يسعد أوقاته"، وكانت كعادتها لا تتذكر الكلمات جيداً رغم كثرة ترديدها للأغنية وماجد زين العابدين يقف بجوارها ممسكاً بورقة بها كلمات الأغنية ليساعدها وإذ بها تطلب من الفرقة التوقّف لأنهم نسوا لازمة موسيقية .. "لا يا أستاذ، فيه لازمة هون" ثم ترددها لهم بصوتها العذب لتعلن بكل بساطة أنها وإن غابت عنها بعض الكلمات، فالموسيقي محفورة بداخلها لا تنساها أبداً. كانت تمر بفترة صعبة في ذلك الوقت فقد أصيب عمودها الفقري إثر حادث، و إضطرت إلي العلاج بال"كورتيزون" لتستطيع الوقوف علي المسرح، فأصابها "الكورتيزون" بزيادة واضحة في الوزن و ألم نفسي جديد. يوم الحفل كان الأمر كارثي فالفرقة كما يقولون "فرقة عالنوتة"، أي لا تعرف سوي اللحن المحفوظ و إن حادت المطربة عنه، يرتبك العازفون وهو ما حدث فعلاً , ف"ربي" المُخضرمة كانت من عباقرة الإرتجال و الخروج "الآمن" عن اللحن، وهو ما أوقع الفرقة في المشاكل وظهر جلياً للحضور أن الفرقة ضعيفة للغاية. "كلما بدي سلطن بيطيرولي السلطنة.. ما عاد فيني اتحمل.. من البروفات قلتلهن" .... قالتها "ربي" صراحةً بعد أن ضاقت بهم أثناء أدائها لأغنية "صبّرني يا قلبي"، فما كان من أحد عازفي الكمان الذي شعر بالإهانة سوي أن أخد آلته و غادر المسرح، و المايسترو لم يعترض بينما هي تستشيط غضباً و تحرّك يديها بعصبية، و لم تتحمّل المسكينة و إتجهت لمغادرة المسرح و تعثّرت في فستانها أثناء الخروج ليزداد غضبها أكثر وأكثر، وحاول المتعهد وآخرون إسترضائها لتعود ثانيةً للمسرح؛ فقبلت علي مضض و لما عادت؛ وجدت المسرح وقد غادره الجمهور و الفرقة الموسيقية! - رابط لواحدة من أجمل أغاني ألبومها الأخير "لأ يا قلبي" : http://www.youtube.com/watch?v=5vOsyzSQbOk - رابط لحفلتها الأخيرة :http://www.youtube.com/watch?v=NfL_3izH6yY أصابها المشهد بهستيريا و دخلت في نوبة عصبية شديدة حتي أن أمن الفندق طلب لها الشرطة لمحاولة تهديدها بالقبض عليها وإسكاتها بالتالي؛ فتكفّل بعض أصدقائها بإيصالها إلي أقرب مستشفي، لكنها ظلت علي حالتها لساعات طويلة حتي غادرت المستشفي لتعود إلي بيتها في ضاحية "قدسيا" بدمشق، وتدخل في حالة إكتئاب شديدة انتهت بإصابتها بعد يومين بجلطة دماغية نُقلت علي اثرها إلي المستشفي ثانيةً! كان النقاش علي أشدّه في نقابة الفنانين بين مؤيد و معارض لمساعدة النقابة لها في حالتها الصحية، علي أساس أنها غير نقابية و أنهم لو ساعدوها ففي ذلك مخالفة للقانون و بالفعل لم يساعدوها، وانتهي الأمر بخروجها من المستشفي بعد أسبوع رغم عدم إكتمال العلاج لإرتفاع تكاليفها ونقلها إلي مستشفي قرية "دوما"، والتي انتقلت إلى ربّها فيها خلال يوم واحد بعد أن أصابها نزيف دماغي حاد!! كانت "ربي" قد أوصت سابقاً بدفنها في مدافن العائلة في "حلب" ولكن حتي هذه الأمنية لم تتحقق لها، فقريبتها الوحيدة التي إستطاع ولدها الصغير "رامي" الوصول إليها كانت خالته، وخالته تلك ووزجها كانا يعتبران الفن خطيئة وينظران لها بإعتبارها منبوذة، ولا تجوز الصلاة عليها بشكل لائق و دفنها في مدافن العائلة، وانتهي الأمر بأن قامت جمعية خيرية أرمينية بتولّي مهام الصلاة و تشييع الجثمان، والذي كان بمثابة المهزلة فقد تم الإعلان عن خبر الوفاة بإستخدام إسمها الحقيقي، الذي لم يعرفه أغلب الناس في ذلك الوقت، و لم تهتم أي وسيلة إعلام بالخبر، فكان عدد الحضور في جنازتها لا يُذكر، ولا يتعدي العشرين شخصاً بأي حال من الأحوال، أما الدفن فقد دفنوها في مقابر مجانية للغرباء خاصة بالجمعية؛ ليكتمل مشوار مُعاناتها بالرقود وسط غرباء، ربما لو كانوا أحياء وقتها؛ لأشفقوا عليها أكثر ممن كانوا حولها وقت الرحيل. رحلت عن عمر يناهز ال 39 عاماً و هي في أوج مجدها و قمة عطائها .. رحلت وفي قلبها حزن لم تتحمله و لم يعاونها أحد علي الشفاء منه.. رحلت في صمت يليق بالقديسين ، تاركةً حياة الصخب لمن يعرف أن يرقص أكثر! مع ولدها رامي قيل عنها: * الشاعر الياس ناصر: صوت ربى الجمال صوت لامس العمالقة في النوعية وفي القدرات. انها زهرة في روض واسع الآفاق. بقيت بريّة... عطرها فاح من خلال احاسيسها المفعمة بقدرات اكتسبتها مع مرور الزمن. ربى الجمال مازالت في وجدان من عرفها من الفنانين القديرين ومن عامة الناس الذين "سلطنوا" على ادائها. * المطربة جاهدة وهبه: ربى الجمال صوت ماسي ..يتنقل بين أصناف الغناء بعمق وعذوبة ويرقص على سلم الدرجات الموسيقية بخفة وسلاسة.. يتسلّقها من خفيض الى أعلى فأعلى بطواعية ودراية محافظاً على نبراته الهادلة وتردّداته المخملية الرخيمة مجنّحاً بوقار وكبرياء محلّقاً بانسيابية وامقة فيها من الشجن الكثير ومن الصدق الشفيف ,ومن التلوينات والعِرَب ما يُدخلك في هذيان من آهٍ و وجد. صوت درامي تعبيري يأخذك بومضة الى طقس السلطنة يتجوّل بك في ربى الجمال ويهديك تنهدات من بلّور محفوف بناي الرّيح وبرق الدمع. * إلياس سحاب: جمع صوتها بين مدرستي أم كلثوم وأسمهان , من الإرث النادر والقيم الذي تركته المطربة الكبيرة الراحلة، تسجيل مصوّر للقاء جمعها بالفرقة القومية العربية للموسيقى بقيادة مؤسسها، الموسيقي اللبناني سليم سحّاب. كان ذلك مطلع التسعينيات. يومها أدت ربى أغنية «إفرح يا قلبي». ظهورها العابر واليتيم مع الفرقة، ما زالت أصداؤه تتردد لغاية اليوم، وأثره الفريد انطبع في سجل الفرقة التي قدمت مئات الأعمال من روائع الموسيقى الشرقية، ورافقت عشرات المطربين والمطربات. هكذا أتت ربى إلى القاهرة للمشاركة في مهرجان الأغنية العربية، والتقيناها، سليم وأنا، بداية في جلسة خاصة، غنّت خلالها مقتطفات من أغاني أم كلثوم. في العادة لكلّ منّا رأيه المختلف في عمل موسيقي أو صوت معين. وكنا نعرف أنّنا إذا اجتمعنا على رأي معيّن، فمعناه أننا أمام حالة خاصة! يومذاك اتفقنا مندهشَيْن على أنّ صوت ربى يجمع بين أكبر مدرستين في الغناء العربي: أم كلثوم وأسمهان. في حين يمكن أن ننسب معظم الأصوات النسائية الكبيرة، إما إلى هذه المدرسة أو تلك، باستثناء نجاة الصغيرة التي كانت تجمع بينهما أيضاً. لكن الفرق كبير من جهة قوة الصوت لصالح ربى الجمال. في الحفلة، عندما استهلت مطلع «إفرح يا قلبي»، ذهل الجمهور الحاضر (حوالى 1500 شخص) وأتذكر كيف سيطر صوتها على القاعة والحضور. بل إنّ سليم كان على شفير البكاء من شدّة التأثر. وأذكر أن أمجد العطافي، صاحب الصوت الأبرز في كورال الفرقة الذي كان يتوّلى الغناء المنفرد، قال له: "يا مايسترو، كلنا لازم نعمل كورال وراء الصوت الرائع ده". * الباحث و الموسيقي الراحل صميم شريف: صوت خارق لم أسمع مثيلا له منذ خمسين سنة. * الموسيقار محمد سلطان: إذا قبلت أن تبقى في القاهرة لعام واحد فسأجعل منها أهم مطربة في عصرها.