تحليل: إبراهيم غالي مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط تعيش تونس أجواء أزمة سياسية هي الأكثر حدة منذ نجاح الثورة في يناير عام 2011، إذ يعكس المشهد التونسي الراهن أمرين، أولهما: وجود أزمة ثقة بين كافة الأطراف والقوى السياسية وحتى داخل بعض هذه القوى ذاتها، وثانيهما: وجود أزمة ثقة لدى المواطن التونسي في النخب السياسية وفي مجمل الأداء الاقتصادي والسياسي على مدار عامين. وتعود بداية الأزمة الحالية إلى اغتيال القائد اليساري شكري بلعيد في 6 فبراير الجاري، وهو الاغتيال الذي هز أرجاء تونس وأعاد مشهد التظاهرات الجماهيرية من جديد، ليس لكون هذا الاغتيال السياسي هو الأول من نوعه داخل الأراضي التونسية، ولكن لأنه أشعل كذلك أزمة الثقة الكائنة بين الأطراف السياسية؛ الأمر الذي حاول رئيس الحكومة التونسية المستقيل، حمادي الجبالي، تداركه سريعا لتجنيب البلاد مخاطر الفتنة والعنف الأهلي بعد تصاعد الاحتجاجات ضد الائتلاف الحاكم، بإعلانه تشكيل حكومة كفاءات وطنية "تكنوقراط" غير حزبية. وقد باءت محاولات الجبالي بالفشل بسبب إصرار الائتلاف الحاكم الذي يضم أحزاب ( النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات)، والتي تسيطر مجتمعة على ما يقرب من ثلثي مقاعد المجلس التأسيسي، على تشكيل حكومة ائتلاف وطني لا حكومة كفاءات وطنية، بما يحفظ لها مواقعها السياسية؛ وهو ما قاد الجبالي إلى تقديم استقالته من رئاسة الحكومة يوم الثلاثاء الماضي، ثم رفضه إعادة التكليف مرة جديدة بالأمس، حيث أعلنت حركة النهضة اعتذاره عن عدم قبول الترشح لرئاسة الوزراء، وأنها بصدد التشاور داخلها ومع شركائها لتقديم مرشح إلى رئيس الجمهورية. ولا ريب في أن استقالة الجبالي والبحث عن رئيس جديد للحكومة التونسية يعيد الاصطفاف السياسي إلى المربع "صفر"، إذ من المتوقع أن يتمسك كل من فريق الأغلبية بالمجلس التأسيسي وفريق المعارضة من داخل المجلس ومن خارجه بشروط صعبة ربما قد تُطِيل أمد تشكيل الحكومة الجديدة بعض الشيء، لأن التحدي الذي سيواجه رئيس الحكومة الذي سيتم تكليفه هو ذاته ما حدث مع الجبالي، فالأغلبية ممثلة بحركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية يصران على تشكيل حكومة سياسية ائتلافية تكون أكثر سعة وتعبيرًا عن مكونات عديدة داخل المجلس التأسيسي، بينما هناك في المعارضة من يقبل هذه الفكرة من دون استحواذ الأغلبية على الوزارات السيادية، ومن يقول بتشكيل حكومة تكنوقراط، ومن يتخذ موقفا أكثر تشددًا من خلال الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني عاجل للإنقاذ، بحيث يناقش كافة متطلبات المرحلة وتنبثق عنه حكومة إنقاذ تدير البلاد حتى إجراء الانتخابات المقبلة. وتكشف أزمة استقالة رئيس الحكومة وعدم قبوله إعادة التكليف مرة أخرى أولا عن صعوبة توافق القوى السياسية على أنسب الآليات لاستكمال الفترة الانتقالية التي يجب خلالها الاتفاق على إجراء الانتخابات الجديدة ووضع الدستور الجديد؛ فقد تمسكت حركة النهضة بموقفها الرافض لتشكيل حكومة من التكنوقراط، وأكدت أنها لا تقبل مبادرة الجبالي الذي يشغل منصب الأمين العام للحركة، ولن تفرط في السلطة ما دام الشعب يجدد ثقته في الحركة، بل وذكر زعيم الحركة، راشد الغنوشي، أن "تخلي النهضة وشركائها عن السلطة لصالح حكومة تكنوقراط هو انقلاب مدني"، معتبرا أن حزبه "يتعرض منذ توليه السلطة في أواخر عام 2011 لمؤامرات متواصلة بلغت أوجها مع طرح حكومة كفاءات غير حزبية، قائلاً: "إن تمزيق النهضة أو إقصاءها بالقوة أو بالحيلة عن الحكم يعرض الوحدة الوطنية وأمن تونس للخطر"؛ ولهذا قررت حركة النهضة تنظيم تظاهرات جماهيرية حاشدة بالعاصمة التونسية يوم السبت الماضي تحت شعار "الوحدة الوطنية والدفاع عن الشرعية"، وذكر الغنوشي في خطابه أمام المتظاهرين أن "تشكيل حكومة تكنوقراط يعد انقلابًا على شرعية الحكومة". من جانب آخر، يعتقد بعض المراقبين التونسيين أن هذه الأزمة قد كشفت ثانيا عن انقسام نسبي داخل حركة النهضة بين جناح أقل تشددا أيد مبادرة الجبالي باعتبارها مخرجا للأزمة السياسية وبين جناح أكثر تشددا يقوده رئيس الحركة الغنوشي؛ فالأول قدم استقالته واعتذر عن تشكيل حكومة جديدة مؤكدًا على أنه "لن يقبل خوض تجربة حكومية جديدة إلا بعد تحديد موعد للانتخابات وكتابة الدستور"، وأنه "قدم مبادرة حكومة الكفاءات لتجنيب البلاد التجاذبات السياسية، ولأنها الأقدر على ترسيخ وتوطيد الأمن والتشغيل ومواجهة الأسعار، فضلاً عن كونها ستحظى بقبول وطني عام". بينما فضل الجناح الآخر تشكيل حكومة ائتلاف وطني جديدة للحفاظ على سلطاته داخل كل من الحكومة والمجلس التأسيسي، ورفض خلال المفاوضات تشكيل حكومة تمزج بين الحزبيين والتكنوقراط، وكذا التخلي عن الوزارات السيادية، خصوصًا العدل والداخلية والشئون الدينية. أما الأخطر من انقسام النخب على نفسها فهو أن هذه الأزمة السياسية تتزامن من ناحية ثالثة مع توقيت يشعر فيه المواطنون بعدم الرضا وضعف الثقة في أداء السياسيين والحكومة، خاصة في المجال الاقتصادي، إذ لا ينقطع الحدث في تونس منذ أشهر عن احتمال دخول الاقتصاد في وضع كارثي؛ فقد حذر وزير المال في الحكومة المستقيلة، حسين الديماسي، مؤخرا من أن تونس مهددة بالسيناريو اليوناني، وأنها توشك على الإفلاس. وتشير الأرقام إلى أن الوضع الاقتصادي التونسي بعد عامين من الثورة شهد تراجعا غير مسبوق بسبب الاحتقان السياسي الذي أثر على مناخ الاستثمار وهروب رأس المال. وتؤكد هذه المؤشرات أن الوضع السياسي المتأزم قد يزيد الأزمة الاقتصادية سوءًا، وقد تدفع المواطنين وشباب الثورة واتحاد الشغل والنقابيين إلى عودة المظاهرات، لاسيما وأن بعض استطلاعات الرأي تؤكد عدم رضا المواطن التونسي بنتائج المرحلة الانتقالية حتى الآن. فوفقا لنتائج الاستطلاع الذي أجراه المعهد الأمريكي الجمهوري الدولي بالتعاون مع شركة "إلكا" التونسية للبحوث المسحية خلال الفترة من 19 ديسمبر 2012 إلى 7 يناير 2013، ونشرت نتائجه يوم 14 فبراير الجاري؛ ارتفعت نسبة من يرون أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطىء من 30 % في شهر يناير عام 2012 إلى 77 % في يناير 2013، وبلغت نسبة غير الراضين عن أداء الحكومة بشكل عام 64 %، وذكر 82 % أن لديهم خيبة أمل في الأداء الاقتصادي في البلاد. ومن هنا يجوز القول: إن الأزمة السياسية الراهنة قد تتجه للتعقيد إذا فشل حزب النهضة ذو الكتلة البرلمانية الأكبر (89 مقعدا من أصل 217 مقعدا) في تكوين ائتلاف حكومي موسع خاصة وأن شريكه الأساسي "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" أصبح أكثر ضعفًا بعد تشتته إلى ثلاث كتل نتيجة خلافات داخلية، وذلك في الوقت الذي تحتاج فيه حركة النهضة لحلفاء أقوياء ذوي شعبية في الشارع التونسي، وهو ما لم يعد قائمًا بشكل كبير، وبصفة خاصة بعد أن مالت توجهات كتلة التكتل من أجل العمل والحريات (الشريك الثالث للنهضة في الائتلاف الحكومي السابق) إلى المعارضة وإلى رؤية ضرورة تشكيل حكومة كفاءات، وفي ذات الوقت ثمة ضغط شعبي تواجهه الحركة لأن 73% من التونسيين كانوا يؤيدون مبادرة حمادي الجبالي بتشكيل حكومة كفاءات؛ ما يعني أن الشارع سيرى أن حركة النهضة فضلت الحكومة ووزاراتها على تحقيق استقرار سياسي كانت تكفله مبادرة الجبالي بعض الشيء. وربما تضطر حركة النهضة بالنظر إلى كافة هذه العوامل السابقة، وبعد أن تختار رئيس الحكومة الجديد، أن تلجأ لدى المفاوضات إلى السعي لإقناع عدد من الأحزاب الصغرى، من بينها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحركة الوفاء المنشقة عنه، وكتلة المستقلين داخل المجلس التأسيسي (تضم 50 عضوا) لتشكيل ائتلاف حكومي جديد تقول: إن شعاره سيكون "تحقيق أهداف الثورة" و"إقصاء رموز النظام القديم"، وكذلك سوف تسعى الحركة إلى محاولة طمأنة الأحزاب الكبرى والقوى السياسية بإبداء الاستعداد للتخلي عن حقيبتي العدل والخارجية، وإن كان من غير الوارد أن تتخلى الحركة عن وزارة الداخلية، أو سوف يشغلها شخص قريب من الحركة على أقل تقدير. وربما هذه التنازلات الصغرى لا تقنع أحزاب المعارضة الرئيسية مثل الحزب الجمهوري والمسار الديمقراطي والجبهة الشعبية، والذين يرفضون المشاركة في الحكومة، وحزب "نداء تونس" الذي أعلن أنه غير معني بتشكيل الحكومة لكن دعا إلى تفعيل مبادرة الجبالي باعتبارها خريطة طريق عاجلة لإنقاذ البلاد، فيما دعت الجبهة الشعبية إلى مؤتمر إنقاذ وطني تنبثق عنه حكومة جديدة، فيما يصر التكتل من أجل العمل والاتحاد الديمقراطي على ضرورة تشكيل حكومة كفاءات وطنية غير حزبية مهما كان رئيس الحكومة الجديد. وأمام هذا التباعد في المواقف بين حركة النهضة وبين الأحزاب الرئيسية، فإن المفاوضات من أجل تشكيل الحكومة الجديدة لن تكون سهلة بأي حال، وربما حتى إذا تمكن حزب النهضة من تمرير هذه الحكومة داخل المجلس التأسيسي بأغلبية الثلثين، فإن نصيب هذه الحكومة من الحصول على رضا المواطنين والأطياف السياسية والمجتمعية لن تكون أكثر جدارة من حكومة الجبالي التي استمرت حوالي 14 شهرا دون أن تتمكن من إحراز تقدم ملموس على صعيد حياة التونسيين، أمنيا ومجتمعيا واقتصاديا.