أسلوبان متمايزان تسعى من خلالهما حركتا التمرد المركزيتين في شمال مالي إلى مقابلة التدخل العسكري الوشيك لإنهاء سيطرتهما على إقليم أزواد منذ إبريل الماضي، أولهما أسلوب التهديد ومواجهة الحرب بالحرب، وثانيهما أسلوب إستجلاب التفاوض من أجل إيجاد حل بديل لأزمة شمال مالي قبل استكمال الاستعدادات العسكرية التي لا يبدو أن المجتمع الدولي أو دول جوار مالي الأفريقية بوارد التراجع عنها. فقد دفعت الاستعدادت التي تجري منذ الشهر الماضي لخوض عمليات عسكرية من أجل استعادة وحدة الأراضي المالية كلا من "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" و"جماعة أنصار الدين" إلى اتخاذ مواقف تتراوح بين الإعداد لمواجهة الحرب، وبين محاولة كل منهما إقناع الأطراف الإقليمية الفاعلة بجدوى التفاوض معهما من أجل تجنب الحرب. من جانبها، وجهت الحركة الوطنية رسالة بالأمس إلى الهيئات الدولية عشية قمة مجلس الوساطة والأمن بمنظمة دول مجموعة غرب إفريقيا "إيكواس" لضبط خطة حول العملية التي تنعقد اليوم، مفادها "أن أي تدخل عسكري إقليمي أو دولي لا يعتمد على حركة تحرير أزواد سيكون مآله الفشل مهما كانت الإمكانيات البشرية والتقنية والمالية المخصصة له". واقترحت الحركة إشراكها ليس في الحرب على الجماعات المتمردة الأخرى أو التنظيمات الإسلامية المتطرفة، ولكن في عملية لتأمين إقليم أزواد التي تعرف جيدا واقعه الاجتماعي والطبوغرافي، بما يجنب الخسائر البشرية الفادحة المتوقعة في أي حرب. ودعت الحركة الأطراف المعنية إلى " تفعيل الحوار والتفاوض بينها وبين حكومة باماكو.. وبعدها سيتكفل جيشها بطرد العناصر الإرهابية وتجار المخدرات من الإقليم"، وأكدت أن "تهميشها خلال التدخل المرتقب سيعقد الأزمة ويعمم الخطر على المنطقة ولن يحقق أي من أهدافه السياسية والعسكرية المحددة". أما حركة أنصار الدين فقد أعلنت يوم الخميس الماضي على لسان الناطق باسمها، ساندا ولد عمامة، أنها " تتعهد بنبذ العنف والإرهاب"، حيث قال ولد عمامة: "نحن ندين التطرف والإرهاب في المنطقة، ونحن حركة إسلامية لديها سياساتها الواضحة ونريد العيش كمسلمين ببلدنا". ويمكن القول إن كلتا الحركتين تسعيان إلى محاولة استمالة بعض الأطراف الإقليمية، وربما الدولية، إلى محاولة تجنب الحرب.. لكن هذه التحركات قد جاءت متأخرة كثيرا بحيث لا تعدو أكثر من كونها محاولة لإبراء الذمة أمام سكان شمال مالي الذين سيتضررون كثيرا من تداعيات حرب طويلة ستكون باهظة الثمن، خاصة وأن الحركتين يتنازعان النفوذ والسيطرة على الأراضي الشمالية منذ إبريل الماضي. ولهذا يبدو أن الخيار الأول، أي مواجهة الحرب بالحرب، هو الخيار الذي اعتمدته كافة حركات التمرد في شمال مالي منذ إصدار مجلس الأمن الدولي قرار التدخل العسكري في 12 أكتوبر الماضي، حيث بدأت هذه الحركات العمل على تكييف أوضاعها لمجابهة الحرب، حتى إنها تركت خلافاتها جانبا لتحاول التنسيق لمجابهة التدخل العسكري. وتمثلت أولى هذه الخطوات في إعلان "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" و"حركة أنصار الدين"، الطوارقية الإسلامية، يوم 20 أكتوبر الماضي توحيد صفوفهما لمواجهة التدخل العسكري المرتقب ضد الطوارق، والاتفاق على تفعيل إتفاق فشلا في التوقيع عليه في مايو الماضي، يتضمن إندماجهما في حركة واحدة أطلقا عليها اسم "المجلس الانتقالي لدولة أزواد الإسلامية"، بسبب إصرار "حركة أنصار الدين" على أن يتضمن الاتفاق تطبيق الشريعة الإسلامية، بينما رأت حركة تحرير أزواد أن ذلك يتعارض مع مبادئها العلمانية. وفي 24 أكتوبر، وبعد لقاء تفاهم تم بين بلال آغ الشريف، زعيم "الحركة الوطنية لتحرير أزواد"، وأحمد ولد سيدي محمد، زعيم "الحركة العربية لتحرير أزواد"؛ تمكنت الحركتان من الاتفاق على الدخول في تحالف سياسي، يجري الإعداد للتوقيع على مسودته النهائية، وذلك من أجل تجنب مخاطر الفتنة العرقية التي تسعى بعض الجهات الإقليمية للعب عليها للوقيعة بين الطوارق وبعضهم البعض. وتعد "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" واحدة من حركات عديدة ظهرت في العقود الماضية مثل الحركة الشعبية لتحرير أزواد التي تأسست في عام 1988، وتسعى وفقا لما تقول إلى تحرير أرض أزواد والحفاظ على هوية الطوارق. وقد تشكلت الحركة في نوفمبر 2010 كأكبر تنظيم يمثل طوارق شمال مالي، وعاد آلاف الطوارق مدججين بالأسلحة من ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي ليتمكنوا من إعلان الدولة في 6 إبريل الماضي. وقد اندمج بالحركة كل من: الحركة الوطنية للأزواد والحركة الطوارقية لشمال مالي. ويصف بلال آغ الشريف الحركة بأنها ذات طابع علماني، أما "الحركة العربية لتحرير أزواد"، فقد تشكلت مطلع العام الجاري، وتضم أبناء القبائل العربية بالإقليم، والمكونة أساسا من قبيلة "لبرابيش". ولم تشترك الحركة في القتال الذي أدى إلى سقوط أزواد، لكنها تسعى إلى الدخول في شراكة مع "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" من أجل تجنب تهميش العرب. وإذا كانت "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" تعبر عن الجانب الليبرالي والعلماني لطوارق شمال مالي من ذوي الأصول غير العربية، فإن "حركة أنصار الدين" تعبر عن التوجه الديني المتشدد لذات الطائفة من الطوارق، حيث تعرف الحركة نفسها بأنها "حركة شعبية جهادية سلفية". وقد تأسست "حركة أنصار الدين" على يد الزعيم الطوارقي، إياد غالي، وهو من أبناء أسر القيادات القبلية التاريخية لقبائل "الإيفوغاس". وكان غالي دبلوماسيا سابقا لجمهورية مالي، وعمل قنصلا عاما لمالي في جدة بالمملكة العربية السعودية، لكنه اعتنق الفكر السلفي الجهادي في الأعوام الأخيرة. ومع سقوط القذافي عاد إلى أزواد، واتخذ من سلسلة جبال "أغارغار" مقرا له، وبدأ في تجميع المقاتلين الطوارق تحت مسمى "حركة أنصار الدين" التي كان لها دورا بارزا في السيطرة على أقاليم الشمال. وشرعت الحركة عقب هزيمة الجيش المالي في الشمال وإعلان إقليم أزواد في تنفيذ الحدود الشرعية ضد الذين يرتكبون مخالفات شرعية تستوجب إقامة الحد، وانخرط أعضاؤها في حملات تستهدف ما يصفونها بأوكار الخمور والدعارة والفساد الأخلاقي في مدينة تمبكتو، وقاموا بتدمير العديد من الأضرحة القديمة في العديد من القرى والمدن. وتعد هذه الحركة الفصيل الثاني الأكثر نفوذا بين طوارق شمال مالي بعد "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" من حيث تعداد المنضوين تحت لوائها، لكنها ربما تكون الفصيل الأكثر سيطرة ونفوذا على الأرض من حركة تحرير أزواد. وتوجد خلافات في مالي ودول الجوار حول تصنيف حركة أنصار الدين، ففي الوقت الذي ترى فيه الجزائر وبوركينا فاسو أنها تنظيم يمثل طوارق شمال مالي، تعتبرها دول أخرى مثل مالي ونيجيريا حركة إرهابية بحكم أنها تحالفت مع تنظيم القاعدة. أما الحركة الثالثة صاحبة النفوذ في شمال مالي فهي "حركة الجهاد والتوحيد في غرب أفريقيا"، إحدى الحركات الإسلامية المسلحة، والمنبثقة عن تنظيم القاعدة، وقد أسسها في أكتوبر 2011، "سلطان ولد بادي"، أحد شخصيات المجتمع العربي في أزواد، وأمير تنظيم القاعدة السابق في منطقة الصحراء، الموريتاني "حماد ولد محمد الخير" الملقب ب "أبو القعقاع"، وانضم للحركة عشرات المقاتلين من أبناء القبائل العربية في شمال مالي، لتصبح الحركة بذلك واجهة للتيار السلفي الجهادي في المجموعات العربية بأزواد، مثلما تشكل "حركة أنصار الدين" الواجهة السلفية الجهادية داخل المجموعات والقبائل الطوارقية. وقد دخلت هذه الحركة في إقتتال داخلي مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد، واستطاعت في أواخر يوليو الماضي أن تسيطر على مدينة غاو، عاصمة أزواد، وطردت منها بلال آغ الشريف أمين عام الحركة. ويعتبر "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" نفسه حامي المشروع السلفي في شمال مالي، ويرتبط بعلاقات قوية مع حركتي "أنصار الدين" و"الجهاد والتوحيد". وكان التنظيم قد وصل إلى منطقة الساحل في عام 2003 على يد أمير كتيبة الملثمين "مختار بالمختار" الملقب "بلعور"، ويعد أقدم وأقوى التنظيمات السلفية في الصحراء الكبرى عموما ومنطقة أزواد خصوصا. وتسعى هذه التنظيمات السلفية والسلفية الجهادية إلى إستقطاب العديد من المقاتلين الجهاديين من مختلف الدول لمواجهة الحرب المحتملة في أزواد، فقد هددت هذه المجموعات، وعلى رأسها حركة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد، باستهداف قلب وعواصم الدول التي ستشارك في العدوان على شمال مالي، وربما يكون لهم القدرة على ذلك بسبب انتشار الطوارق عبر صحراء الساحل الأفريقي، وفي كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو والجزائر وليبيا. تجدر الإشارة إلى أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي نشط خلال السنوات الأخيرة في منطقة الساحل والصحراء، ونفذ العديد من عمليات خطف الأجانب في بعض هذه الدول وعميات للهجوم على مواقع في عواصم بعض هذه الدول. ويخصص التنظيم أميرا لمنطقة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة، والتي تشمل الرقعة الجغرافية للصحراء الكبرى الواقعة شمال مالي، وتعرف لدى التنظيم باسم "صحراء الإسلام الكبرى". وتساند القاعدة كافة المناطق التي يحدث فيها تدخلات عسكرية خارجية مثل الصومال، وينشط مقاتلوها في منطقة غرب أفريقيا التي تشكل إحدى بؤر التوتر الكبرى في القارة، نظرا لغياب الأمن وعدم الاستقرار في كثير من بلدانها، حيث يتواجد التنظيم في مناطق الحدود جنوبالجزائر، عبر مالي والنيجر وحتى موريتانيا. وقد استطاع التنظيم إقامة روابط مع شباب المجاهدين في الصومال، وصولا إلى جماعة "بوكو حرام" النيجيرية التي يرجح أن تكون مرتبطة بجماعة طالبان النيجيرية، فكريا وأيديولوجيا، والتي تأسست في عام 2002، حيث يمثل تواجد تنظيم القاعدة في نيجيريا تهديدا خطيرا لدولة نفطية مهمة.وخلاصة ذلك أن الاستعدادت الأفريقية والدولية لشن حرب في شمال مالي يقابلها عودة الحركة الوطنية لتحرير أزواد إلى التحالف مرة جديدة مع جماعة أنصار الدين التي تسيطر مع الحركة على مدن غاو وكيدال وتمبكتو، وتتعاون مع حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، ذات الطابع السلفي، في كل مناطق إقليم أزواد. ولهذا فقد تؤد الحرب إلى كثافة تواجد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من أجل الدفاع عن أزواد المستقلة، وإحداث إنتشار للجهاديين من الطوارق في النيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا وليبيا والجزائر، وهو الأمر الذي سيعقد من الحرب ويجعل لها إمتدادات إقليمية تتجاوز شمال مالي.