اليابسة خلفهم..والبحر أمامهم..وأحلام الثراء والحياة الرغدة تسيطر على عقولهم..هذا هو حال كثير من شباب مصر، ممن يفكرون فى الهجرة غير الشرعية؛ نتيجة تدنى مستوى المعيشة، وفقد الأمل فى العيش الآدمي.. بعد أن كانت ليبيا هى المنصة الرئيسية للهجرة إلى إيطاليا تبدل الحال وتنافست الشواطئ المصرية على ذلك، وأصبحت محافظاتالفيوم، كفر الشيخ، الدقهلية، الغربية، الشرقية، البحيرة، المنوفية، القليوبية مراكز لطرد سكانها، بالإضافة إلى محافظتى الصعيد أسيوط والأقصر. عندما تدخل بيوتهم البسيطة المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لا تجد إلا أقل القليل، فرص عمل موسمية وحرف بسيطة هى كل ما يجده شباب عزبة أبو خشبة بمركز مطوبس الواقع بمحافظة كفر الشيخ..هذا المكان الذى اخترناه لنرصد من خلاله أحد أكبر مراكز الهجرة غير الشرعية بجمهورية مصر العربية. حاورنا أحد الشباب الناجين من حادث مركب رشيد الشهير الذى غرق قبالة شواطئ محافظة البحيرة، لكن فى الحقيقة أغلب ركابه يتبعون محافظة كفر الشيخ تحديدًا مركز مطوبس..فأخبرنا أن الغلاء والعيشة الصعبة فى هذه السن الصغيرة أفقداه الأمل فى تكوين مستقبله مما دفعه لمحاولة الهجرة. ويسرد (مصطفى.م) تجربته : ” مررنا بأيام صعبة قاسية، اضطررنا لتحملها حتى نكون على قدر المسئولية أمام أهالينا، وقمنا برهن بيوتنا طلبًا للسفر، فقد جمعت نحو 25 ألف جنيهًا، أعطيتهم لسمسار لم أقابله وجهًا لوجه قط، إنما كانت كافة محادثاتنا تليفونية، وأخبرنى كذبًا أن المركب لن تحتوى سوي على 150 فرد فقط لا غير. وأكمل حديثه: “وبعد أيام ومعرفة نقطة التجمع..ذهبنا ليلًا للشاطئ واستقلينا سيارات نصف نقل سارت بنا مسافة كبيرة، برفقة مجموعة من الرجال يقومون بسبنا وإهانتنا لدرجة التطاول بالأيدى فى محاولة منهم للسيطرة على العدد الكبير وإجبارنا على إلتزام الصمت، إلى أن وصلنا إلى مركب قضينا فيها ليلة قبل أن يتم نقلنا إلى مركب آخرى أبحرت بنا نحو سفينة الهجرة المنشودة”. ويصمت الفتى اليافع ليتذكر الأحداث ثم يستكمل:” صُعقت عندما رأيت السفينة، فطولها يبلغ 21 مترًا وبحالة متهالكة تمامًا، وكان عددنا 255 فردًا أخبرونا أن هناك 40 شاب فقط قادم، وفوجئنا بأن العدد الحقيقي 230 فردًا، وهكذا أصبحنا 485 فردًا فى المركب واشتكينا للقائمين علينا دون جدوى، من ثم مالت السفينة فورًا وبدأت فى الغرق فقفزت هربًا وسبحت نحو 9 ساعات، ولا يمكننى أن أكرر تلك التجربة مرة آخرى..”والبحر ملوش أمان” على حد قوله. يقول (م.ع) – سائق – يبلغ نحو 40 عامًا : ” نحن نهاجر بحثًا عن حياة آدمية لا نجدها فى بلادنا، لدي أسرة أرغب فى توفير متطلبات الحياة لها، ولقد حاولت الهجرة 3 مرات ، نجحت أولهم ووصلت لإيطاليا بالفعل، لكن الشرطة الإيطالية قامت بالقبض علي وتم ترحيلى على متن طائرة مصرية، من ثم حاولت مرتين ، لكني فشلت وعدت للبلاد مرة آخرى”. يقول (و.م) –صياد- : “لا توجد وظائف حكومية لدينا، أنا أعمل بالصيد بشكل مُوسمي، فى مدة تتراوح من شهرين إلى 3 أشهر، وباقي العام عاطل بلا عمل أو دخل، كيف يمكننى الزواج أو العيش أصلا، أنا أعلم أن الهجرة بهذا الشكل خطر وخطأ، لكن لا بديل”. من جانبها قالت (أسماء.م) – مُدرسة – : ” أنا أسكن بمطوبس، لكنى أعمل مدرسة فى الجزيرة الخضراء، والطلاب عندى فى الفصول ينتظرون إنهاء قدر من تعليمهم من ثم يهاجرون عندما يصلون لسن مناسبة وعندما تتوافر الظروف للهجرة، مثل هؤلاء مهما حذرناهم من الهجرة غير الشرعية فلا جدوى، فالبيئة المحيطة تساعد على غرز قيم عدم الانتماء والرغبة فى العيش والسكن خارج البلاد طلبًا للرزق وتحقيق الثروة سريعًا، وكل صبي مراهق يعلم أنه ليس بمقدوره العمل إلا كفلاح أو كصياد على حد قولها. “تفاخر اجتماعي وتكاسل عن العمل” ” التفاخر الاجتماعى من أهم أسباب الهجرة وليس البطالة فقط ” هكذا يقول الدكتور ناصر مسلم، مدير برنامج الحد من الهجرة غير الشرعية بالمجلس القومي للطفولة والأمومة، مؤكدًا أن رغبة الشباب فى الاقتداء بأقرانهم حافز قوي للسفر. ويضيف قائلًا: “نواجه الهجرة غير القانونية منذ فترة لكنها زادت مؤخرًا، وكثير من الشباب غير مؤهل لشغل أى وظيفة من الأساس، لذا فالهجرة هنا هروب وتكاسل عن بذل الجهد والكد”، ويوضح: ” سافرت إيطاليا أكثر من مرة آخرهم إبريل الماضي، برفقة أعضاء اللجنة الوطنية التنسيقية للهجرة غير الشرعية برئاسة مجلس الوزراء وبحضور ممثلين عن النيابة العامة ووزارتي الدفاع والخارجية وغيرهما، ويمكن القول أننا نتعامل مع شريحة كبيرة من الأطفال أقل من 18 عام، يستغل أهلهم القانون الإيطالي الخاص بعدم إعادة الأطفال خشية تعرضهم للاستغلال وإبقائهم فى ملاجئ لتعلم اللغة ومحو الأمية، لكنهم يهربون وينخرط الكثير فى أعمال غير قانونية مثل المخدرات والدعارة، لأنهم سافروا رغبة فى المال. و يذكر “مسلم” تجربة تم إجرائها فى 2010 فى محافظة الفيوم لكونها أكثر المحافظات تصديرا للهجرة غير الشرعية:” قمنا بعمل دراسات لتقدير احتياجات الشباب من فرص العمل فطلبوا مجال السياحة، من ثم طورنا مدرسة فندقية بمنطقة جبل الزينة على الطراز الأوروبى من حيث المبانى و المناهج والمدرسين وغيرنا كل نظام التعليم هناك لتطابق مدرسة فى فينيسيا، وأصبحت هذه المدرسة مقصدًا للناس، لكنها تبدلت للأسوأ فورًا تسليمها لوزارة التربية و التعليم. الملاحظ والغريب أن بطاقات الرقم القومي لكثير من الأهالي تتبع محافظة البحيرة، نظرًا لقصر المسافة لمدينة دمنهور وسهولة إنهاء الإجراءات الحكومية، بعكس مدينة كفر الشيخ التى تبعد أكثر، كما يعاني المواطنون من التعقيدات الروتينية والبيروقراطية. وعلى الرغم من الشهرة الواسعة التى اكتسبتها محافظة كفر الشيخ فى مجال الثروة السمكية من خلال الكم الهائل من الأقفاص والمزارع السمكية ومشروعات الاستزراع السمكي، إلا أنها لا توفر حاجة السكان من فرص العمل، كما أن كثير من الشباب غير مؤهلين –رغمًا عنهم- أو غير راغبين فى الانخراط فى تلك الوظائف. ويظل مسلسل الهجرة غير الشرعية قائمًا طالمًا لا تتوافر الخدمات والمرافق بالقري الفقيرة، ويظل تحقيق الثراء والنجاح وراء البحار حلم يراود الشباب مهما كان محفوفًا بالمخاطر، يسعون له مرة تلو الآخري ويدفعون بالأموال لسماسرة الموت من باب (يمكن تصيب هذه المرة).