حرب أكتوبر.. تأملات اللحظة الحاضرة أربعون عاما بالتمام والكمال.. مضت على حرب أكتوبر ومع مرور السنوات تزداد هذه الحرب توهجًا فى الذاكرة الوطنية والضمير المصرى، هى أول حرب ينتصر فيها الجيش المصرى انتصارًا كاملًا منذ حروب إبراهيم باشا فى القرن التاسع عشر مع فارق مهم أن حروب إبراهيم باشا، كانت فى معظمها خارج حدود مصر، وحروب مصر زمن الخديو إسماعيل كانت خارج مصر، ويتعلق معظمها بمنابع النيل وسط إفريقيا، بينما كانت حرب أكتوبر 1973 داخل الأراضى المصرية لاستعادة سيناء وتحريرها من الاحتلال الإسرائيلى الذى وقع فى يونيه 1967. حرب أكتوبر أيضًا هى حربنا الأولى مع إسرائيل التى كنا نحن المبادئين والمبادرين بها، بينما الحروب السابقة كانت المبادأة من الجانب الإسرائيلى، حدث ذلك فى عامى 1956 و1967 حتى حرب 1948 لم نكن نحن من بدأ.. كنا دائمًا رد فعل، لكن هذه المرة كنا نحن الفعل الفاعل، وكان الإسرائيليون هم المفعول بهم. النتائج المباشرة للحرب تحققت فور قيامها، من تحطيم خط بارليف وإزالة الساتر الترابى أمامه، وعبور القوات المصرية إلى شرق القناة ودخول سيناء، ونتائجها غير المباشرة وضحت بتحرير سيناء كاملة من الاحتلال الإسرائيلى، فى إبريل 1982 أى بعد تسع سنوات من بدء الحرب، وعلى مستوى المجتمع المصرى، كان للحرب نتائج وآثار عديدة، فضلاً عن آثارها السياسية التى استمر بعضها معنا إلى اليوم. واليوم فى ضوء الواقع والظروف التى نعيشها فإن ذكرى الحرب تأتى والجيش المصرى يخوض حربًا فى سيناء ضد الإرهابيين والإرهاب، الذى أراد أن يحتل سيناء وينتزعها من مصر ويقيموا عليها إمارة خاصة بهم، وكأن سيناء مقدر لها أن تخلص من الاحتلال الإسرائيلى لتذهب إلى احتلال الإرهابيين. تنطوى حرب أكتوبر على كثير من المعانى والدلالات يحسن أن نتذكرها ونستوعبها الآن لأننا فى أشد الاحتياج لذلك، أولى تلك الدلالات أن مصر يمكنها أن تتحدى السياسة الدولية وتخرج عليها، فيما يخص قضاياها وأمورها الخاصة، والذى حدث أن الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتى خلال اجتماع القمة بين نيكسون وبريجنيف قررا معًا ضرورة الاسترخاء العسكرى فى منطقة الشرق الأوسط، وكان معنى ذلك عدم نشوب حرب بين العرب وإسرائيل، تحديدًا مصر وسوريا، ويترتب على ذلك بالضرورة أن تعمل كل منها على الحيلولة دون نشوب نزاع، ثم ترجمة ذلك فعليًا فى تباطؤ الاتحاد السوفييتى بتسليم مصر أسلحة ومعدات حديثة كان متفقًا عليها، تشمل صواريخ وطائرات حديثة، ولذا اطمأنت إسرائيل إلى أن مصر لن تقدم على أى عملية عسكرية، وهى تفتقد تلك الأسلحة، وحتى حينما وصلت إليها بعض معلومات بتحركات مصرية على الجبهة اعتبرتها إسرائيل مجرد مناورة عسكرية عادية، صرح مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية وقتها أن مصر لا يمكن أن تفكر فى شن هجوم طالما لم تصلها الطائرات والصواريخ التى طلبتها من روسيا، الولاياتالمتحدة هى الأخرى سارت على نفس النهج وراحت تعرض على مصر الحل السلمى مع إسرائيل فى اجتماع مجلس الأمن القومى المصرى بمنزل الرئيس السادات فى الجيزة مساء يوم 30 سبتمبر 1973، قال السادات طبقًا لرواية أشرف غربال فى مذكراته «ما تعرضه أمريكا هو الفتات، وفتح قناة السويس وانسحاب جزئى وأن تعمر لنا مدن القناة وبس. لنلاحظ وندقق كلمة السادات «وبس»، فلم يكن المعروض هو المطلب المصرى ولا كان كافيًا للمصريين. وهذا المشروع كان معروفًا وقتها، ويتمثل فى أن تنسحب إسرائيل شرق القناة لمسافة 10 أو 15 كيلو متر، وافتتاح قناة السويس للملاحة البحرية مقابل أن توقع مصر مع إسرائيل اتفاقًا للسلام. وكان أن تحدت مصر الموقف والقرار الدولى الذى اتخذه نيكسون وبريجنيف فى اجتماع موسكو وقررت أن تخوض الحرب وتعلن بذلك قراراها وموقفها وبإزاء تحرك مصر وعبور القناة أن تحركت كل من موسكو وواشنطن والاتحاد السوفييتى، اضطر بإزاء هذا التصعيد أن يرسل على عجل شحنات السلاح التى تباطأ فى إرسالها والولاياتالمتحدة قررت أن تتدخل لإقناع مصر أو الضغط عليها لوقف العمليات العسكرية، ومن ثم الشروع فى عملية سلام تلبى المطالب المصرية بالإضافة إلى ذلك حرك قرار الحرب أصدقاء مصر فى العالم الرئيس اليوغسلافى تيتو أرسل إلى مصر قافلة دبابات الواقعة رواها الرئيس السادت فى مؤتمر صحفى، وتحركت الهند سياسيا ودبلوماسيا فى إطار مجموعة دول عدم الانحياز، التى كانت مصر واحدة من مؤسسيها الكبار. المعنى فى كل هذا أن القوى الدولية لا يجب أن تكون قيدا علينا فيما يخص حقوقنا وقضايانا يجب أن تكون المبادأة لنا والقرار قرارنا والفعل فعلنا وبعدها يأتى دور القوى الدولية أما أن نضعها قبل القرار والفعل فسوف تكون قيدا علينا أو إن شئنا الدقة احتلالا ناعما لإرادتنا ومصيرنا. والحق أننا بحاجة أن ندرك ذلك المعنى، الآن فى اللحظة التاريخية التى نعيشها حيث بات فريق منا يركز نظره تجاه الإدارة الأمريكية فى كل خطوة يجب أن نخطوها وكل قرار يتخذه حتى لو تعلق الأمر بشأن داخلى ويخصنا تماما، صحيح أن بعض الأطراف والتيارات ارتبطت نهائيا بالقرار والتفكير الأمريكى لكن ما يخصنا جميعا ويدخل فى الشأن الوطنى والقومى هو أمر خاص ويعنينا فى المقام الأول صحيح أننا يجب دراسة كل خطوة قبل الإقدام عليها ودراسة الموقف المتوقع لكل الأطراف الدولية ولكن فى النهاية «ما حك جلدك مثل ظفرك». الدلالة الثانية تتمثل فى أن العبور وقرار الحرب لم يكن ليصدر لولا أن هناك ضغطا وإلحاحا وطنيا وشعبيا من أجل اتخاذ تلك الخطوة حدثت تظاهرات الطلاب فى عام 1972، احتجاجا على حالة اللاسلم واللاحرب، التى كانت تعيشها مصر وغضب الكُتاب والمثقفون والصحفيون من تلك الحالة وأصدروا بيانا عرف سياسيا وإعلاميا باسم بيان توفيق الحكيم، لأن الحكيم ونجيب محفوظ كانا أبرز الموقعين عليه وتعرض الحكيم ومحفوظ لهجوم حاد ومباشر من الرئيس السادات فى خطاب عام له، بسبب التوقيع على ذلك البيان، وفصل الصحفيين الذين وقعوا عليه من هنا لم يكن أمام الرئيس السادات ومعه قيادة الجيش من مفر أمام التعجيل بقرار الحرب وحين بدأت المعركة كان الشعب يقف مساندا وداعما حقيقا لقواته المسلحة تلك العلاقة التى أطلق عليها وقتها سلامة الجبهة الداخلية، والتى نطلق عليها الآن ومنذ ثورة 25 يناير 2011 «الشعب والجيش إيد واحدة»، باختصار كى يحقق الجيش إنجازا وانتصارا يجب أن يكون مدعوما تماما من الشارع ومن الشعب، وكذلك فإن مطلب الشعب فى تحرير الأرض والوطن لن يتحقق بدون دور الجيش وجهده هذه العلاقة بين المدنى والعسكرى مهمة لنا وفى وطننا، وأظن أنها كذلك بالنسبة لمعظم دول العالم إن لم تكن كلها ومن ثم فإن حالة الاستعداد أو التشنج فى النظر إلى الجيش لدى بعض الأفراد أو التيارات يجب أن نأخذها بحذر بالغ وبتدقيق شديد. يرتبط بذلك علاقة قيادة الجيش بالقيادة السياسية والوضع الصحى، والصحيح أن تكون العلاقة طيبة وجيدة وأن يكون هناك تفاهم واحترام، فضلا عن الثقة لأن قرار القيادة السياسية منوط بتنفيذ الجيش له فضلا عن التنفيذ الجيد، وقد رأينا ذلك لحظة حرب أكتوبر 1973 كانت العلاقة بين الرئيس السادات والفريق أول أحمد إسماعيل على، المشير فيما بعد جيدة للغاية وكان الجيش مقدرا المطلب الشعبى بضرورة القتال ومستعدا للتنفيذ فضلا عن أن ذلك القرار كان يتضمن رد اعتبار للجيش بعد الذى جرى فى حرب يونيه 1967. العلاقة بين السياسى والعسكرى ضرورة ومهمة قبل نهاية حرب أكتوبر ساءت العلاقة بين، الرئيس السادات وبين رئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلى وكان ذلك نتيجة لخلاف وقع بين وزير الحربية أحمد إسماعيل ورئيس الأركان سعد الشاذلى، فانعكس ذلك فى ثغرة الدفرسوار التى استغلتها إسرائيل إعلاميا لتوحى بأنها حققت انتصارا عسكريا. الالتباس فى العلاقة والتعامل بين العسكرى والسياسى يجلب الكثير من الأزمات واستواء تلك العلاقة يؤدى إلى نتائج إيجابية للوطن وللمجتمع هذا ما تثبته أحداث حرب أكتوبر وما تكشفه أحوالنا فى السنوات الأخيرة فى اجتماع مجلس الأمن القومى بمنزل السادات مساء يوم 30 سبتمبر 1973 قال الفريق أحمد إسماعيل على الحل السياسى بدون دعم عسكرى لن يؤدى إلى أى شىء كان يقول ذلك بالنسبة لسيناء ولكن القول صحيح بالنسبة لأمور أخرى كثيرة. الدلالة الثالثة والمهمة تتعلق بعلاقات مصر العربية حرب أكتوبر كانت لحظة فارقة فى هذا الجانب فقد شهد العالم العربى سنوات الخمسينيات وحتى سنة 1967ما يطلق عليه الدارسون فترة الحرب الباردة العربية حيث انقسم العرب إلى معسكرين الثورى التقدمى فى مقابل الرجعى، والحق أن هذه الفترة أدت إلى خسارة الطرفين وضياع فرص كبيرة للتكاسل العربى، وكان السادات منتبها وهو يعد المسرح للحرب إلى أهمية البعد العربى، بالنسبة للمعركة ولمصر عموما، صحيح أن مصر هى الشقيقة الكبرى وهى الرائدة والسباقة ولديها الموقع الفريد والتركيبة السكانية المتماسكة، فضلا عن أنها الأكبر من حيث تعداد السكان والكثير من الإمكانيات، بها الأزهر الشريف وجامعة القاهرة، أقدم جامعة عربية فى العصر الحديث وهى مقر جامعة الدول العربية، كل هذا ضرورى ومهم ولكن لا يجب أن نكون وحدنا عسكريا كان التنسيق والتشارك مهم وضرورى مع سوريا لنجاح المعركة وقبل بدء المعركة وحتى سنة 1972 كانت ليبيا شريكا فى التخطيط فى إطار مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا وليبيا، عموما كان الدور العربى واضحا فى الإعداد، على الأقل فى الدعم المادى من دول النفط لدول المواجهة وتحديدا مصر وسوريا ولعبت الجزائر وليبيا دورا مهما فى تمويل بعض صفقات السلاح، فضلا عن الحصول على سلاح غربى، كان من الصعب على كل من مصر وسوريا الحصول عليه مثل صفقة طائرات الميراج الفرنسية التى أبرمتها ليبيا لصالح مصر، وهكذا وبعد بدء العمليات لعب سلاح النفط دورا محوريا وشاركت هذه الطائرات فى العمليات العسكرية فى الغرب كى تنتبه الولاياتالمتحدة وهى الداعم الرئيسى لإسرائيل إلى المشكلة العربية مع إسرائيل، أحداث الحرب معروفة والدور العربى فيها مسجل ومرصود، تتناوله بالتفصيل الكثير من الدراسات والأبحاث لكن المعنى الأهم أن الأفضل والأنسب لنا أن نتفاعل مع عالمنا العربى، كانت حرب أكتوبر نموذجا للتلاحم العربى ثم حدث الانشقاق بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1980، ولابد أن نضع فى اعتبارنا وذاكرتنا اللحظتين الفارقتين فى تعاملنا وعلاقاتنا العربية مصر تؤدى دورها وتتألق سياسيا وثقافيا وحضاريا من خلال التعامل والعلاقات الجيدة مع محيطنا العربى، ولعلنا ندرك ذلك الآن بعد ثورة 30 يونيه فقد كان الموقف العربى الصلب والداعم للثورة المصرية عاملا مهما فى الحد من الضغط الأمريكى الأوروبى على مصر لصالح جماعة الإخوان وكان الموقف العربى المساند ماديا للاقتصاد المصرى، عنصرا من عناصر الاستقرار ونجاح ثورة 30 يونيه أمام جحافل الثورة المضادة. وأهم الدلالات فى تلك الحرب تتعلق بالقرار نفسه، قرار الحرب الذى اتخذه الرئيس السادات المؤكد أن مصر يوم 6 أكتوبر لم تكن فى وضع اقتصادى جيد، كان وزير التموين يشكو من أن الموقف التموينى أصعب كثيرا من الموقف العسكرى وأن الاحتياطى الاستراتيجى من المواد التموينية لا يكفى لمدة 3 شهور وأنه كى ندخل الحرب يجب أن يكون لدينا ما يكفى 3 شهور كان كل ما لدينا من مخزون القمح 190 ألف طن فقط، وكان الموقف العسكرى يعانى نقصا فى التسليح والذخائر وفيما يخص هذا الجانب تحدث الرئيس السادات كثيرا عنه فى خطبه فيما بعد، ومع ذلك فقد أقدم الرئيس السادات على اتخاذ هذا القرار ولو أن هذا القرار قد أدى لا قدر الله إلى نتائج سلبية، كان مصير السادات المحاكمة، وكذلك الحال بالنسبة لكبار قادة الجيش، وكبار المسئولين فى الدولة والمعنى هنا أن المسئول عليه أن يمتلك شجاعة اتخاذ القرار خاصة إذا كان قرارا مصيريا يتعلق بالدولة، والواقع إننا يجب أن نتذكر تلك اللحظة من التاريخ حين وقع الرئيس السادات قرار الحرب فما بالنا الآن ونحن نجد مسئولين أياديهم مرتعشة وتعجز عن اتخاذ القرار فى أمور أهون من ذلك بكثير ليس الأمر الآن فقط، بل وعبر السنوات الأخيرة واخترع المسئولون الكبار عندنا أن يتركوا كثيرا من الأمور معلقة بلا اتخاذ أى قرار ويذهب الأمر إلى القضاء ويصدر حكم وتعتبر القيادة السياسية أنها نجت بذلك من المشكلة أو الأزمة. الاحتفال بذكرى الحرب أمر مهم يتعلق بلحظة مجيدة ومهيبة فى التاريخ المصرى المعاصر، لحظة فارقة فى التاريخ تجعلنا نؤرخ بما قبلها وما بعدها ليس على مستوى مصر فقط، بل بالنسبة للمنطقة العربية كلها وأكاد أقول بالنسبة للنظام العالمى، كانت هذه الحرب بداية الخروج النهائى للاتحاد السوفييتى من المنطقة ومن قضية الشرق الأوسط فتقلص دوره وضعفت مكانته حتى سقط تماما فى سنة 1990. المهم ألا يكون الاحتفال والاحتفاء متعلقا باللحظة التاريخية التى عشناها فقط، بل نتأملها لندرك ما تحمله من معانٍ وأفكار ونماذج لنا فى لحظتنا الحاضرة.