عيون لامعة، ثنايا وجه مصرى مائة فى المائة، دخان السجائر دوما ما يتعلق بجدران حجرته، لم يهدأ له فكر ولا بال، قلب ينبض بحب هذه البلاد، يحبها باستحياء القروى البسيط، أديب أعمى، سياسى محنك، محام مشاغب، عسكرى يكره أعداء الوطن «كما أقنعوه»، مدمن محب لذاته، عاشق للسلطة ولكرسى الوزارة، ملاكم قوى عنيد، مصور محترف، مطرب رائع، أخ يأخذ بالثأر، مثقف محتال، وغيرها الكثير والكثير من الشخصيات. استطاع هذا المصرى الأوحد أن يجسدها على مدار رحلته الأبدية، بملامح مصرية وبعقل مدرك حدود وآفاق وأبعاد الكلمة والحركة، شخصيات تحبسه حبسا افتراضيا فى ذاته، فهى تقبع تحت جلده، لا تتركه إلا حين يتقمص غيرها، ولم تتوان عنه إلا بخروج روحه، تخشاه الكاميرا ولا يخشاها، رحالة فى رحلة بحث عن الذات.. إنه الراحل الباقى أحمد زكى. ماذا قال عن نفسه شخصياتى السينمائية التى أديتها فى السينما حزينة، ظريفة، محبطة، حالمة، متأملة، مشهورة، ومهمشة، تعاطفت مع جميع الأدوار، غير أننى أعتز بشخصية إسماعيل فى فيلم «عيون لا تنام»، التى فيها أربع نقلات فى الإحساس، فى البداية الولد عدوانى جدا، كريه جدا، وساعة يشعر بالحب يصبح طفلاً، الطفولة تجتاح نظرته إلى العالم وإلى الآخرين لأول مرة الحب، وها هو يبتسم كما الأطفال، ثم يعود يتوحش من أجل المال، ثم يحاول البراءة، ثم يفقد صوابه.. كلها نقلات تقتضى عناية خاصة بالأداء، فى «عيون لا تنام» جملة أتعبتنى جداً، جعلتنى أحوم فى الديكور وأحرق علبة سجائر بأكملها. مديحة كامل تسأل: إنت بتحبنى يا إسماعيل؟ فكيف يجيب هذا الولد الميكانيكى الذى يجهل معنى الحب، وأى شىء عنه؟ يجيبها: أنا ماعرفش إيه هو الحب، لكن إذا كان الحب هو أنى أكون عايز أشوفك باستمرار، ولما بشوفك ما يبقاش فيه غيرك فى الدنيا، وعايزك ليّه أنا بس... يبقى بحبك. سطران ورحت أدور حول الديكور خمس مرات.. لحظة يبوح ابن آدم بحبه، لحظة نقية جداً، لابد أن تخرج من القلب.. إذا لم تكن من القلب فلن تصل.. واحد ميكانيكى يعبر عن الحب، ليس توفيق الحكيم وليس طالبا فى الجامعة، وإنما ميكانيكى يعيش لحظة حب.. هذه اللحظة أصعب لقطة فى الفيلم. اكثر ما أكرهه هم الناس اصحاب العيون الزجاجية التى تشبه عيون السمك لا تعبر عن شىء. أنا ممثل فقط ولا أحب كلمة نجم.. عندما أقرأ أسماء النجوم أجد اسمى «محشورا» بينهم رغم أنى لم أدع أنى نجم. أرى ان ترتدى الكرة الأرضية قميصا أبيض زى بتاع المجانين لأن ما يحدث فى كل مكان بالعالم من دمار يؤكد ان العالم اصابته لوثة عقلية. انا مثل سائق التاكسى عندما يكسب عشرين جنيها يصرفها وعندما تنفذ نقوده يعود للعمل.
عافر مع الحلم اللى نابت جوة منك أحمد زكى عبدالرحمن بدوى، ولد فى الثامن عشر من أغسطس 1949، فقد توفى والده وهو لم يكمل عامه الثانى، وكان من المحتم أن تتزوج الأم كعادة أهل الريف، خاصة إذا كانت صغيرة فى السن، وحرم الطفل من حنان الأم وهى على قيد الحياة ليلازمه الشعور باليتم طوال حياته إذ تربى فى كنف جده وجدته، ويكبر بلا إخوة، وكانت أول مرة يرى فيها أمه بعد زواجها وعمره سبع سنوات، ولم يستمر اللقاء بينهما لحظات، ويصفه أحمد زكى قائلا: قبلتنى واختفت، أنهى أحمد زكى المرحلة الإعدادية التحق بمدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية وكان وقتها يقوم بتقليد كل من يغيب من أفراد عائلته ومدرسيه، فموهبته بدأت تتفتق، وتتضح للجميع وقد شارك فى مهرجان المدارس الثانوية ونال جائزة أفضل ممثل على مستوى مدارس الجمهورية، وشجعه وقتها ناظر المدرسة الذى كان يحب المسرح بشكل كبير، وفى الحفلات المدرسية برمضان دعا ناظر المدرسة مجموعة من الفنانين من القاهرة «صلاح منصور وزكريا سليمان وحسن مصطفى»، ليكونوا لجنة التحكيم، وبعد انتهاء العرض الذى قدمه وأخرجه أحمد زكى استمع من هؤلاء الفنانين الكبار إلى كلمات الإعجاب والتشجيع ونصحوه بالالتحاق بالمعهد العالى للفنون المسرحية، وبعد حصوله على الدبلوم كان من المفترض أن يكمل دراسته بالمعهد العالى الصناعى ولكنه اتجه لأكاديمية الفنون وقدم أوراقه لمعهد الفنون المسرحية ولم يقبل من المرة الأولى ولا الثانية لكنه لم يحبط، حتى ان لجنة القبول بالمعهد كانت تتجاهله وتتحدث فيما بينها وهو يؤدى دوره بالاختبارات، فملامحه غير الوسيمة، وجسده الضعيف، وسمرة بشرته لم تؤهله للقبول وقتها لكنه وبإصرار شديد وبعد محاولات نجح فى الاختبارات وجاء ترتيبه الأول، وبرغم هذا كان ينجح فى جميع المواد وبدرجات تكاد تصل للنهائية، بينما كان دائم الرسوب فى اللغة الإنجليزية، الأمر الذى أدى وقتها إلى تغيير بعض قوانين المعهد بسببه، ولم تكن اللغة أو المظهر العائق الوحيد فى حياته بل أيضا أساتذته فى المعهد، ففى السنة الثانية بالمعهد أسند إليه الدكتور رشاد رشدى دورا مهما فى مسرحية «القاهرة بألف وجه» ولكن اعترض طريقه الفنان سعيد أبوبكر، مؤكدا أنه لا يصلح للدور، ورغم ذلك تمسك به رشاد رشدى، ولكنه تحمل وصمد أمام قسوة الظروف، فقد رفض الكثير من المخرجيين والمنتجين التعاقد معه بحجة أنه لا يحمل مواصفات فتى الشاشة، فهو أسمر، هزيل الجسد، لا يحمل قدرا من الوسامة المطلوبة، ولم يكن له نصيبه فى السنوات الأولى سوى أدوار هامشية ثانوية، فقدم أدوارا بسيطة فى عدد من المسرحيات مع سعيد صالح منها هاللو شلبى ومدرسة المشاغبين. ورغم سطوة البعد التجارى على هذه العروض حيث كانت تعتمد على الكوميديا اللفظية إلا أن أحمد زكى استطاع أن يشق لنفسه طريقا وسط هذا الزحام ويعبر عن نفسه، وعن كونه مختلفا مع ما يقدم، وتخرج فى المعهد عام 1973 وكان الأول على دفعته بتقدير امتياز.
وكان للأثنى نصيب فى مرارة عيشه، وللحب أيضا، فأحب أحمد زكى فتاة من سن الإعدادية وكما يقول فى يومياته أنه لم يلمس يدها، لم يقو على أن يقول لها بحبك، فتقاليد بلادهم ترفض مثل هذه المشاعر، كما أنه ارتبط مرة بإحدى زميلاته وكادت أن تتحول هذه العلاقة إلى زواج لولا بعض خلافات أدت الى فشلها، كما انه التقى بفتاة اصغر منه بسنوات وصارحها بأن زواجهم محكوم عليه بالفشل لأنه يكبرها سنا وهذا سيضع النهاية المبكرة لهذه العلاقة، فقد كان وقتها واقعيا فى حياته الاسرية، وتقدم لخطبة فتاة «فلة» من عائلة ثرية من قريته وكان صديقا لأخيها وكان يحبها منذ كان فى عمر الرابعة عشرة، فرفض أهلها طلبه لأنه كان عاطلا، وكان وقتها يتحدث عن أشياء وطموحات لا يمكن أن يصدقها عقل وقتها، وبرغم ذلك ظلت علاقتهما ممتدة حتى وفاته، ولكنها كانت فى إطار الصداقة. وبعد ذلك وحلم البيت والاسرة مسيطر عليه التقى بهالة فؤاد التى دوما ما كان يصفها بالإنسانة الراقية المهذبة اللطيفة، حين مثل معها ووجدها نموذجا رائعا لتلك الزوجة التى طالما حلم بها، وكانت وقتها حديثة التخرج من كلية التجارة، واعتقد انها لا تحب الفن والتمثيل، وعرض عليها الزواج، وبعد الزواج توقفت هالة عن التمثيل، وبعد انجاب ابنهما الوحيد هيثم، قررت أن تعود للتمثيل، وهو كان يرفض هذه الفكرة، فقد كان يود حمايتها من هذا العالم القاسى بمشاكله التى لا تنتهى، ولكن رفضه واجهه العناد، ولم يحتملا، فانفصلا، وتزوجت هى وبعدها تحجبت واعتزلت. برغم علو مكانته كان مصابا بفوبيا المرتفعات فترك شقته بالمهندسين بالطابق الثانى عشر وعاش فى فندق فى وسط القاهرة. لاتزال معاناته تكبل روحه حتى انه كان دوما يردد فى أغلب جلساته، بيت نزار قبانى الشهير «مقدورك أن تبقى مسجونا بين الماء وبين النار». حافظ احمد زكى على روح المعافر من بداياته وحتى النهايات.
جمل لاتنسى من أفلامه ناصر 56 «فى هذه الأيام التى نكافح فيها من أجل حريتنا. حرية شعب مصر ومن أجل شرف الوطن، إن مصر كانت دائما مقبرة للغزاة لجميع الامبراطوريات التى مرّت عليها على مرّ الزمن. وانتهت الإمبراطوريات وبقيت مصر وبقى شعب مصر، اليوم ونحن نقاوم عدوان الظلم والاستعمار الذى يريد أن ينتهك حريتنا وإنسانيتنا وكرامتنا، ونحن نقاوم هذا العدوان إنما نطلب من اللَّه أن يلهمنا الصبر والإيمان والثقة والعزم والتصميم على القتال. إن الموت حق على كل فرد منا، ولكن إذا متنا يجب أن نموت بشرف، العمر بيد الله. ما حدش يقدر يغير من أجله، أنا معاكم فى القاهرة ولادى معكم ما طلعتش برة بنبنى بلدنا، تاريخنا. مستقبلنا النهارده، شعارنا دائما «الله يقوينا». بنجاهد وسننتصر.. الله أكبر.. الله أكبر» «هذا المشهد من أقوى المشاهد فى حياة الرائع أحمد زكى فيلم ناصر 56 والرئيس جمال عبدالناصر يلقى خطابه من الأزهر».
« فيلم أيام السادات» «السلام لنا جميعا بإذن الله. لقد جئت اليوم على قدمين ثابتتين لكى نبنى حياة جديدة، لكى نقيم السلام وكلنا على هذه الأرض. أرض الله. كلنا مسلمين ومسيحيين ويهودا، نعبد الله ولا نشرك به أحدا. وتعليم الله ووصاياه هى حب وصدق وطهارة وسلام». هذا مشهد آخر استطاع فيه أحمد زكى أن يظهر قوى روحية لم تكن فى أحد غيره فها هو يتلو علينا خطاب السادات بالكنيست الاسرائيلى هذا الخطاب الذى حفظه الناس عن ظهر قلب من الرئيس الراحل انور السادات استطاع زكى أن يبهرنا ويبثه حيا من جديد.
« ضد الحكومة » «أعلن كل خطاياى أمامكم وعلى الملأ لعلى أتطهر منها، نعم أنا مثال للمحامى الفاسد بل أكثر فسادا مما يتصوره أستاذى، أنا ابن لهذه المرحلة والمراحل التى سبقتها. تفتح وعيى مع التجربة الناصرية آمنت بها ودافعت عنها، فرحت بانتصاراتها، وتجرعت مرارة هزائمها وانتصاراتها، هنت عندما هان كل شىء، سقطت كما سقط الجميع فى بئر سحيقة من اللامبالاة والإحساس بالعجز وقلة الحيلة. أدركت قانون السبعينيات ولعبت عليه.. وتفوقت، تاجرت فى كل شىء فى القانون والأخلاق والشرف. أنا لا أنكر شيئا، ومستعد للحساب وتحمل المسئولية. بل أكثر من ذلك أعترف أماكم بأننى دخلت هذه القضية طامعا فى مبلغ تعويض ضخم، لكنى اصطدمت بحالة خاصة. جعلتنى أراجع نفسى. أراجع موقفى كله. حياتى وحياتنا. اصطدمت بالمستقبل. نعم صبى من الذين حكم عليهم بأن يكونوا ضمن ركاب الأتوبيس أتوبيس الموت رأيت فيه المستقبل الذى يحمل لنا طوق نجاة حقيقيا، نسحقه دون أن يهتز لنا جفن. نقتله ونحن متصورون أن هذه هى طبائع الأمور. إن هذه جريمة كبيرة لابد أن يحاسب من السبب فيها. إننى لا أطلب سوى محاسبة المسئولين الحقيقيين عن قتل «20» تلميذا لم يجنوا شيئا سوى أنهم ابناؤنا. أبناء العجز والإهمال. كلنا فاسدون. لا استثنى أحدا حتى الصمت العاجز والمواطن قليل الحيلة».