البوري ب 80 جنيها.. أسعار الأسماك اليوم بأسواق كفر الشيخ    البوري ب180 جنيهًا.. أسعار السمك والمأكولات البحرية بأسواق الإسكندرية اليوم 15 يوليو 2025    الحكم محمد الحنفي يعلن اعتزاله    الحكم الدولي محمد الحنفي يعلن اعتزال التحكيم قبل انطلاق الموسم الجديد للدوري المصري    ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 4 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    ضبط 4 أطنان دقيق مدعم خلال 24 ساعة في حملة بالقاهرة    السيطرة على حريق محدود بمبنى إداري دون إصابات بشرية بمستشفى قنا العام    أمير كرارة وأبطال فيلم الشاطر يحتفلون بالعرض الخاص فى 6 أكتوبر.. اليوم    الدفاع الروسية: إسقاط 55 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    وزير التعليم يشيد بمقترح إعداد قوائم انتظار للناجحين بالامتحان الإلكتروني ولم تشملهم أعداد التعيين    فرص عمل في لبنان برواتب تبدأ من 500 دولار - تفاصيل ورابط التقديم    بدلا من بورفؤاد، المصري يواجه كابسي غدا الأربعاء وديا    تراجع في 3 بنوك.. سعر الدولار اليوم ببداية تعاملات الثلاثاء    المركزي يقرر عودة البنوك للعمل إلى الساعة 3 عصرا بدلا من 5 مساء اليوم    تعزيز العلاقات الاقتصادية أبرزها، مستجدات تطور الشراكة الاستراتيجية المصرية مع الاتحاد الأوروبي    قبل إعادة فتحه، كامل الوزير يتفقد الطريق الإقليمى بالمنوفية    حالة الطقس اليوم.. حرارة شديدة تصل ل41 درجة    الاتحاد الأوروبي يبحث فرض عقوبات جديدة على روسيا    شوبير: رغبة أحمد عبد القادر الأولى هي اللعب للزمالك    إسرائيل تعرض سحبا أوسع لقواتها من غزة ضمن مقترح جديد لوقف إطلاق النار    إعلام إسرائيلي: الجيش غارق في وحل غزة وقيادته تخشى مواجهة المستوى السياسي    وزير الدفاع الألماني: يُجرَى الإعداد لتسليم نظامي باتريوت لأوكرانيا    "تكريم وتمكين".. ملتقى بجامعة قناة السويس لربط الإبداع الأكاديمي بفرص التوظيف    رئيس جامعة جنوب الوادى يناقش مشروع الاعتماد المؤسسي للجامعة    تعرف على مدة الدراسة في نظام البكالوريا وفقا للقانون الجديد    وزارة الدفاع الأمريكية تمنح شركات ذكاء اصطناعي رائدة عقودا بقيمة 200 مليون دولار    عبد اللطيف: قطاع التعليم الفني أحد الركائز الأساسية لبناء مستقبل مصر الاقتصادي والصناعي    أبرزهن هذا الثلاثي، نجمات ظهرن في بروموهات ألبوم تامر حسني الجديد    الإصابات بالسعال الديكي في اليابان تتجاوز 43 ألف حالة خلال 2025    تنسيق الدبلومات الفنية 2024 دبلوم التجارة نظام 3 سنوات.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة كاملة    بلغت كولر..تعليق مثير للجدل من المعد النفسي السابق للأهلي على قرار الإدارة    يعالج الاضطرابات الزائدة.. مستشفى جامعة الفيوم تضم أحدث أجهزة علاج القسطرة القلبية- صور    أحمد وفيق: اشتاق للكوميديا .. وجلال الشرقاوي منحني أدوارًا غير متوقعة    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الثلاثاء 15 يوليو    الصحة الأمريكية: تفشي مرض الحصبة لا يعتبر حالة طوارئ وطنية في الوقت الحالي    إعلام فلسطيني: طائرات الاحتلال تقصف مبنى سكنيًا غرب مدينة غزة    شعبة الأدوية تطالب بزيادة أسعار 1000 صنف دوائي وتوضح الأسباب    محامي المُعتدى عليه بواقعة شهاب سائق التوك توك: الطفل اعترف بالواقعة وهدفنا الردع وتقويم سلوكه    بيراميدز يستفسر عن ثنائي الزمالك.. ويرفض التفريط في نجمه للأبيض (تفاصيل)    عمال الجيزة: مشاركتنا في انتخابات الشيوخ ستعكس وعيًا ديمقراطيًا ومسؤولية وطنية    خبير يحذر من مغامرة إثيوبية تشكل خطورة على سد النهضة (التفاصيل)    توقعات الأبراج وحظك اليوم الثلاثاء 15 يوليو 2025.. «الجوزاء» أمام فرصة ذهبية في العمل    أكلت بغيظ وبكيت.. خالد سليم: تعرضت للتنمر من أصدقائي بعد زيادة وزني    أحمد وفيق: عملت في الإضاءة والديكور وتمصير النصوص المسرحية قبل احترافي الإخراج    تجديد عضوية الكاتب الصحفي محمد سلماوي في المجلس الأعلى للثقافة    مدحت العدل يتصدر مواقع التواصل الاجتماعي بعد تصريحه حول حجاب حفيدة أم كلثوم    أستاذ فقه بالأزهر: أعظم صدقة عند الله هو ما تنفقه على أهلك    مستشار وزير التموين: توقعات بوصول أوقية الذهب ل 4500 دولار    التأمين ضد أخطار الحرائق.. تعويض للأضرار وحماية للأصول    تنسيق الدبلومات الفنية 2025.. الكليات والمعاهد المتاحة لدبلوم صنايع (قائمة كاملة)    صفقة جديدة لزعيم الفلاحين.. المحلة يتعاقد مع لاعب كاميروني    محمد حمدي: هذه أسباب عدم نجاحي مع الزمالك    «واشنطن» تُصعّد لهجة الانتقادات ضد «موسكو».. وتستعد لتزويد «كييف» بأسلحة هجومية    أمين الفتوى: صلاة المرأة في الأماكن العامة ليست باطلة (فيديو)    المنقلبون على أعقابهم!    «عايز عقد أكبر من زيزو».. إمام عاشور يفاجئ الأهلي بطلب صادم.. كريم حسن شحاتة يكشف    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 15-7-2025 في محافظة قنا    كيفية تطهر ووضوء مريض القسطرة؟.. عضو مركز الأزهرتجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفى قطبي يكتب.. بورصة أسواق المحللين السياسيّين
نشر في المستقبل يوم 09 - 06 - 2020

العدد المتزايد للمحللين السياسيين باطراد على شاشات الفضائيات العربية ظاهرة تستحق الوقوف عندها، ولاسيما أن هؤلاء باتوا يساهمون اليوم في صياغة الرأي العام العربي عبر ما يقدمونه من معلومات حول موقف سياسي أو اقتصادي من هذه الدولة أو تلك، أو حتى عبر ما يقومون به أحياناً من تسريب معلومات استخباراتية عن لقاءات وطبخات سياسية في الكواليس أو مناورات وضربات عسكرية محتملة شرقاً وغرباً في منطقة عربية مابرحت تهتز على صفيحٍ ساخن، خصوصاً بعد اندلاع شرارة ما يسمى "الربيع العربي" مع حادثة إحراق بائع خضار تونسي لنفسه بولاية سيدي بوزيد ربيع 2011 الماضي.
من هنا أفرزت الفضائيات العربية ما يشبه نُخباً جديدة قوامها جيش من المحللين في مختلف الاختصاصات والاتجاهات، فهم يتكاثرون بسرعة هائلة على الشاشات، يوزعون آراءهم العاجلة ويثوّرون مواقف ضد مواقف أخرى، يصرخون ويتقاذفون الشتائم ويتبادلون تُهم الخيانة والعمالة والارتهان للأجنبي أو العمل كأبواق لدى السلطة، وربما وصلت بهم الحكاية إلى حد الاشتباك بالأيدي على الهواء مباشرة. من هنا يمكن الحديث اليوم عن عشرات الجبهات المفتوحة بين محللين من كل الأنواع، وبصفات ما أنزل الله بها من سلطان على نحو: "خبير في الشؤون الحربية، مدير مركز إستراتيجي، مستشار عسكري، محلل اقتصادي، ناشط حقوقي… المشكلة اليوم أن الكثير من هؤلاء المحللين الذين يتقاضون أجوراً عالية لقاء ظهورهم في البرامج الحوارية الساخنة، باتوا يشكلون اليد الطولى لتكريس سياسة القناة التي يتكلمون من على منبرها، منتمين بقوة إلى البروباغاندا الخاصة بها، ولاسيما عندما تلجأ قنوات عربية دولية باستضافة العديد من "مفكري التلفزيون" من مشرب سياسي متقارب لمناقشة قضية عربية شائكة، متجاهلةً رأي محللين من الضفة الأخرى.
"المحللون السياسيون" والصفة منهم براء، يمنحون المتابع العربي مؤشرات على مكونات فوضاهم ودوافعها وأهدافها، وإلا كيف سنفهم أن سارق أو مارق أو شاذ أفاق، يتحول بمعية الفضائيات إلى محلل "استراتيجي" يجيز استحضار العفاريت الزرق لتساعده في رسم خارطة وطن على مزاجه وبألوانه المفضلة، طالما أن الرسم سيضمن له خازوقاً في كرسي المستقبل، ويضمن له أيضاً المزيد من الثراء وأوراق اللعب، وبعض الاستشفاء من عقد وفوبيات مالها من آخر.
إن هذه التحليلات تدور في حلقة مفرغة لأنها تبحث في تفاصيل وجزئيات الأزمة العربية فتخلص إلى تصور حلول آنية، توفيقية، ترقيعية مبتسرة، باهظة الكلفة، عديمة الجدوى، ومتناقضة في أغلب الأحيان، تزيد من استفحال الأزمة، هذا إن خرجت إلى حيز التنفيذ وأبصرت النور. وإن كل ما قيل، ويقال، وسوف يقال في هذا الصدد صحيح، ومنطقي، ويمكن لأي تفكير سليم أن يتقبله، باعتبار حقيقة وجود المخططات الاستعمارية التي تستهدف المنطقة من جهة، وكوننا مستهدفين من جهة أخرى، هذه حقيقة، والباقي مجرد تفاصيل تختلف حسب كيفية النظر إليها، ولكن الحقيقة الثابتة أيضاً أن أزمتنا تكمن في أننا كشعب عربي، وأنظمة، ومنظمات، ومؤسسات ندعي أننا نعرف من نحن كما نعرف الأخطار التي تتهددنا. إلا أن الممارسات العملية في الفعل ورد الفعل تظهر أننا لا نعرف من نحن ولا ماذا نريد، أو ما الذي يتهددنا، في حين الآخرون يعرفون أننا لا نعرف، وفي نفس الوقت يحتاطون لأي احتمال صحوة نتمناها، ونملك أسبابها، ولكننا لا نعرف الطريق إليها.
والمتابع للفضائيات التي تتزعم الربيع العربي، يستطيع اكتشاف مدى سطحية وجهل الكثير من التحليلات السياسية لهؤلاء المحللين، ومدى إسهامها بتشويه الوعي وإحلال واقع لا وجود له إلا في أذهان أصحابه محل الواقع الحقيقي، سواء المتعلقة بالأسباب أم فيما يتعلق بالتضليلات التي تضمنتها حول وهم القوة المزعوم وخدعة التفوق، لدرجة أن انساقت عشرات الجماهير وراء هذا الوهم الذي يتأسس على تصورات هوامية ذات بعد فصامي يحل التصور محل الواقع الحقيقي. فهل هذه التحليلات مشكِّلة للوعي أم مشوهة له؟ والأخطر من هذا أن بعض هذه التحليلات يأتي في إطار التبريرات التي هي أشد تضليلاً وتشويهاً للوعي الأمر الذي يقود إلى استمرارية استنساخ الوعي المشوه، ويقلل من أمل انبثاق وعي جديد. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح شديد: هل كل من حمل رتبة عسكرية في جيش، أو شغل وظيفة مدنية في دولة، هو مفكر أو باحث أو محلل استراتيجي؟.
وهذا يدفعنا إلى إعادة التساؤل بصيغة أخرى، من هو المحلل السياسي؟ وهل هناك توصيف مهني في أي من البلدان العربية لمهنة إسمها المحلل السياسي؟ أم أنها أصبحت مهنة من لا مهنة له، ومهنة المرشحين المحتملين لمناصب سياسية معينة، ومن ثم فإن إبرازهم على الأقنية الفضائية جزء من عملية التلميع ومحك للولاءات في إطار صناعة الشخص!؟
في الواقع ليس عندي إجابة عن مثل هذه التساؤلات، ولكن ظهور كم كبير من هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم تسمية "محلل سياسي" أو ما يشبه ذلك ممن يعبرون عن إيديولوجيات معينة، ومن تكون إحدى العينين على الكاميرا والأخرى على نظام ما يجعلنا نثير مثل هذه التساؤلات. والمتتبع للأحداث السياسية يمكنه أن يصنف من يطلق على نفسه تسمية محلل سياسي ضمن أصناف ثلاثة:
الأول: المحلل السياسي الذي يعبر عن رأي نظام ما من الأنظمة السياسية أو يمثل أيديولوجية معينة دون أن يكون في موقع ما (بعد) ضمن دائرة النظام.
الثاني: المحلل السياسي بحكم الموقع في مركز أو جهة قد تكون حكومية أو غير حكومية الطابع، وهؤلاء غالبيتهم في أوربا وأمريكا وقلة قليلة منهم في الوطن العربي.
الثالث: ينتمي لإطار علمي ثقافي ما امتهن مهنة التحليل السياسي مستمداً منهجيته من الأطر التي ينتمي إليها، وقد تكون نتاجاً جانبياً لعمله الأصلي، أي يمكن اعتبارها هواية وقت الفراغ. ويمكن إضافة صنف رابع يجمع بين كل هؤلاء بدرجات مختلفة. يضع رِجلاً داخل النظام والرِجل الأخرى خارجه ويعمل في مركز مستقل ظاهرياً، ومقولب بشدة داخلياً وينتمي في الوقت نفسه لإطار ثقافي معين فهو خليط من كل هؤلاء وربما يكون الأخطر من بين هذه الفئات الأربعة.
والمحللون السياسيون هم أولئك الأشخاص الذين امتهنوا مهنة سد الثغرات المعرفية في مجالات متنوعة، وتقديمها على صورة عصارة جاهزة لأولئك الراغبين بالحصول عليها، بغض النظر عن الدوافع الكامنة خلف ذلك، أو عن الكيفية التي سيتم فيها توظيف سد الثغرة هذه. وللسياسة سحرها الخاص، لما لها من تأثيرات تنعكس على حياة الأفراد بشكل مباشر وغير مباشر، ولما يكتنفها من غموض وحجب للأسرار يجعل الإغراء باختراقها معرفياً (أو معلوماتياً) لا يقاوم، ويعطي ذلك الذي ينجح باستقرائها إحساساً واهماً بمشاركته في صنع الحدث لمجرد معرفته به.
ويمكن بطريقة هشة تقسيم الناس إلى قسمين:
الأول، صانع السياسة (أو واضع السيناريو التنفيذي)، وهؤلاء هم السياسيون وأصحاب القرار المخولون بطريقة ما لرسم سياسة معينة. والثاني، يتمثل دوره في السماح للفئة الأولى سواء مكرهاً أو عن طريق الانتخاب باتخاذ القرارات ورسم السياسات نيابة عنه. والمحللون السياسيون أو الإعلاميون بصورة عامة ينتمون للجزء الثاني. إلا أنهم قد ينتمون للقسم الأول أحياناً أو يمثلون الجسر بين القسمين. وبسبب الغموض الذي يكتنف عمل الفئة الأولى فإن مهنة ورغبة الناس في معرفة ما يدور وراء الكواليس واستباق الحدث قبل حدوثه دفعت بعض الأشخاص إلى جعل التحليل السياسي مهنة يمكن استثمارها وأصبحت مهنة التحليل السياسي يمكن التخصص بها وفق أسس وقواعد معينة، موضوعها الأحداث الماضية الغامضة التي ما زال الغموض يكتنفها و الحاضر الذي هو أشد غموضاً والتنبؤ بالأحداث المستقبلية.
وتسعى هذه المهنة إلى الاستنتاج والاستقراء والتشخيص والتفسير والتنبؤ، إلا أنها ليست صانعة للحدث أو موجهة له و لا تتحمل مسؤوليته، سواء سار بهذا الاتجاه أو ذاك. والمحلل السياسي شخص يواجه لغزاً كبيراً عليه أن يجد الحل له من مجموعة من الوقائع المتناثرة والغامضة والتي لا يتوفر حولها الكثير من المعلومات، ومن مجموعة من التصرفات الشبيهة في الماضي والحاضر. ويمكن تشبيه عمله بالشخص الذي عليه تركيب لوحة فسيفساء كبيرة، لا تتوفر عنها لديه إلا بعض الجوانب وعليه إكمال الجوانب الأخرى من تلقاء نفسه بناء على ما توفر له من معلومات. فمجال التحليل السياسي له رجالاته الذين يؤدّونه بجدارة، ويقومون عليه بكفاءة، ومن أراد أن يخوض في هذا المجال يجب أن يلتزم بمعاييره التي يتحتم التمسك بها واحترامها من كل محلل أو باحث أو مفكر إستراتيجي. وفي هذا السياق نذكّر بأهم هذه المعايير التي ينبغي أن تتوفر في الباحث أو المحلل الاستراتيجي، والتي لا يجوز التغاضي عنها، أو تجاوزها أو إسقاطها أو إعفاء أي مفكر استراتيجي من استحقاتها.
يجب أن يتوفر في المحلل الاستراتيجي مؤهلات علمية وشخصية، تجعله قادراً على تحليل الوضع الاستراتيجي لبلد ما بموضوعية وشفافية. فالتحليل الاستراتيجي ليس هواية، بل هي كفاءة علمية وتحصيل أكاديمي، لا يقْدر عليه إلا من كان مؤهلاً، ويملك رصيداً ضخماً من الثقافة والخبرة والإطلاع.
لابد أن يكون المحلل الاستراتيجي فقيهاً في الشأن الذي يتناوله. والفقه بالشيء لا يقف عند حدود المعرفة السطحية به، بل الإحاطة بكل جوانبه، والقدرة على تفسير ظواهره وتحديد مساراته ومسبباته، والوقوف على العوامل المحفّزة أو المانعة لوقوعه، ولماذا تم الحدث على هذا النحو دون ذاك، وما هي النتائج التي ترتبت على وقوعه بكل دقة وأمانة.
والمحلل الاستراتيجي ليس منجّماً ولا متنبئاً ولا عرّافاً، إنما هو خبير في موضوع البحث، يملك لكل استنتاج يسوقه سنداً موثوقاً يدعم استنتاجه ويبرره.
على الخبير الاستراتيجي ألا يحمل أفكاراً مسبقة مطلوب منه إثباتها أو تأكيدها، كما عليه أن يكون نزيهاً محايداً قدر الإمكان (رغم معرفتنا أن حياد المحلل مسألة نسبية). كما يجب عليه أن يعطي الموضوع حقه، فينظر إليه من زوايا عدة، ويُبرز ماله وما عليه. كما ينبغي أن يتجنب طرح الأفكار المسبقة، حتى لا يأتي التحليل مثقلاً بمعلومات يريدها المحلل أو معد البرنامج التلفزيوني، على حساب الموضوعية والحياد، ذلك أن حشر الأفكار المسبقة في التحليل يدمر موضوعيته، ويغتال المصداقية والشفافية المطلوبة في المحلل الاستراتيجي.
على المحلل الاستراتيجي العربي الذي يخاطب الرأي العام العربي، أن يكون أكثر الناس حرصاً على الأمن القومي العربي، وأكثرهم تمييزاً بين العدو والصديق، وأكثرهم تمسكاً بالثوابت القومية، لكونه أكثر الناس إطلاعا على الأخطار المحدقة بالوطن العربي، ومخططات الأعداء الرامية للنيل من وحدته وتماسكه وصموده. لذا لا ينبغي أن يفرط بالأمن القومي، إرضاءً لرغبات القناة المستضيفة، وهو متى فعل ذلك سقط كمحلل، وأضحى بوقاً مأجوراً ليس إلا.
ينبغي على المحلل الابتعاد عن اتباع أسلوب التحليل حسب الأماني، لأن هذا الأسلوب لا يعكس الرؤى الواقعية، بل يعبّر عن عاطفة المحلل، أو أماني القناة المستضيفة، فالتحليل الاستراتيجي هو نتاج بحث مرهق، وتحرٍ مضنٍ عن الحقيقة، وتدقيق مجهد في كل رقم يستخدمه المحلل، وتحقيق موثق لكل قول يستشهد به.
على المحلل الاستراتيجي أن يكون مواكباً للقضية المطروحة، ملماً بتفاصيلها وتطوراتها المستجدة، ويمتلك المهارة المطلوبة لربط أحداثها وبالشكل الصحيح، وتقدير الموقف على نحو دقيق، بما يخدم هدف التحليل، ثم الخروج بعد ذلك بالاستنتاجات التي تأتي في أغلب الأحيان واقعية سليمة. فليس كل من حفظ بضع جمل رنانة في المجال العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، يكررها في كل حين، هو محللٌ استراتيجي. ولو توفرت الشروط الواردة أعلاه في المحلل الاستراتيجي، مع ذلك ينبغي ألا يجزم بحدوث تطور من نوع معين في المستقبل، بل عليه أن يترك هامشاً للمفاجآت المحتملة، لأن الخبير متى قطع بحدوث أمرٍ خلال فترةٍ زمنية محددة، ولم يحدث هذا الأمر بعد انقضاء الأجل، سقط هذا المحلل وعليه من الناحية الأدبية على الأقل أن يتوارى عن الأنظار، لا أن يبدأ بسوق الأسباب التي أدت لعدم حدوث ما توقع.
خلاصة الكلام: تقتضي الأمانة اختيار الفضائيات لما هو مؤهل للتحدث في أمور تشكل عقلية المتلقي، فهذه أمانة مهنية من معدي تلك البرامج، فإن ما نشاهده اليوم من تسطح الرؤية واختلاف التوجهات بين أفراد الأسرة الواحدة ناتج من تلك البرامج التي لا تهتم إلا بالجانب المادي من حصيلة الإعلانات.
كاتب المقال : مصطفى قطبي – باحث وكاتب صحفي من المغرب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.