كان وصول الإخوان إلي سدة الحكم في مصر بمثابة زلزال سياسي ربما يغير خريطة المنطقة كلها لسنوات طويلة ..أيضا مثل وصول الجماعة للحكم مفاجأة للشارع إلا أن الوضع يختلف كثيرا داخل الغرف المغلقة التي تخطط وتنفذ وترسم لنا الواقع الذي نعيشه وتتظاهر امام الكاميرات بأنها بعيدة كل البعد عما يحدث في الشارع العربي بل والادعاء بأنها تفاجأت وأجهزة استخباراتها بما حدث رغم أن كثيراً من المنظمات الدولية والمؤسسات البحثية اعتبرت وصول الإخوان المسلمين لحكم مصر تم الترتيب له مسبقا؛ مستندة إلي تحركات الأجهزة الاستخباراتية الغربية والمؤسسات البحثية لتواصلها مع جماعة الإخوان قبل اعوام عديدة من الثورة؛ ولعل أصحاب الذاكرة القوية يتذكرون جيدا خطاب الباحث والكاتب الصحفي الامريكي مارك لينش الذي وجهه إلي المرشد العام السابق للإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف بشأن سبل وطرق التواصل مع الحكومات الغربية والبيت الابيض الامريكي وقد تم رصد ذلك جيدا سواء من خلال الدوائر البحثية أو الاعلامية التي رصدت تواصل لينش مع شباب الإخوان لسنوات بعد عام 2005؛ وأنحسر هذا التواصل في أطار مجموعة من المحاضرات حول التدوين الإلكتروني واستخدام شبكات التواصل الاجتماعي وطرق التظاهر السلمي من خلال المحاضرات النظرية؛ إضافة إلي تواصل لينش مع الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح ومقابلته أكثر من مرة ليتعرف لينش علي ما يطلق عليه الفكر الاسلامي الوسطي الذي يمثله. والمعروف عن لينش أنه باحث متخصص في شئون الاسلام السياسي في الشرق الاوسط وكاتب دائم في مجلة فورين بوليسي التابعة لجهاز المخابرات الأمريكيCIA ، ولا تختلف مؤسسة راند الامريكية البحثية عن توجه لينش كثيرا نظرا لاتصالها بكبار السياسيين والعسكريين في امريكا؛ بالاضافة إلي توجهاتها المعروفة والتي تخدم مصلحة الامن القومي الامريكي الذي يرعاه جهاز الاستخبارات. فقبل الثورة بشهور اصدرت مؤسسة رأند دراسة حول سبل تغيير نظام الحكم في مصر ومن هو الحاكم المنتظر الذي سيحقق مصلحة امريكا العليا واستعرضت الدراسة تيار الاسلام السياسي المرشح لتولي الحكم بعد مبارك في حالة حدوث انقلاب أو ثورة وقالت إن الإسلام الراهن بصدد أزمة واضحة، تتلخص في كونه محاصرا بآراء مختلفة ومتباينة - حول موقعه في وسط العالم. مشيرة إلي وجود صراع فكري بين المسلمين أوقع الإسلام في مأزق؛ حيث تزعم كل فئة من الفرق والمذاهب الاسلامية أنها الأحق في الهيمنة الروحية والسياسية علي المسلمين. وبالطبع كان لهذا الصراع آثاره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية علي بقية العالم. ومن ثم يسعي الغرب في بذل جهد مضاعف من أجل فهم هذه "الحالة" والوقوف عليها، وأخيرًا التأثير في عواقب هذا الصراع واستثمار هذا المناخ بشكل جيد يخدم المصالح الامريكية. وبات واضحا للجميع وفقا لهذه الفلسفة الجديدة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تفضل عالمًا إسلاميًا يتماشي مع بقية النظام؛ أي يريدون عالمًا إسلاميًا يتسم بالديمقراطية وبالتبعية لقوأنين ومعايير السلوك الدولي. هذا بالإضافة إلي أن هذا العالم الإسلامي "المفضل" مُلزم بالمساهمة في منع أي نوع من أنواع الصدام بسبب الصراعات بين الأقليات المسلمة والمواطنين "الأصليين" في الغرب وما ينتج عنها من إرهاب وعدم استقرار. و تؤكد الدراسة أنه من الحكمة والاتزان تشجيع تلك العناصر -المتواجدة في داخل الخلطة الإسلامية- التي تُظهر أكبر قدر ممكن من التعاطف والانسجام تجاه السلام العالمي، والمجتمع الدولي والديمقراطية. راقبت راند هذه المؤسسة الاستخباراتية العالم الاسلامي وصنفته إلي أربعة توجهات إسلامية، وقالت الدراسة إن المسلمين لا يقدمون تصورا موحدا، أو رؤية متجانسة.. فيما بينهم. بل هم لا يتفقون علي الشكل الذي يريدونه لمجتمعهم الإسلامي؛ فنجد أمامنا أربعة مواقف متباينة اولها الأصوليون الذين يرفضون القيم الديمقراطية والثقافة الغربية الراهنة. فهم يبغون دولة سلطوية متزمتة، تطبق رؤيتهم المتشددة للقانون الإسلامي. إلا أنهم لا يمانعون استخدام التكنولوجيا الحديثة للوصول إلي هدفهم. وثانيها التقليديون الذين يسعون إلي خلق مجتمع محافظ، مع الابتعاد بقدر الإمكان عن كل ما يمت بصلة للتغيير والتجديد والحداثة بالاضافة إلي الحداثيين (أهل الحداثة) الذين يبغون عالما إسلاميا مندمجا في داخل الحداثة العالمية ولا يرفضون خطابات التجديد مما يستلزم -من وجهة نظرهم- التجديد في الخطاب الاسلامي وتغييره ليتماشي ويتواكب مع ظروف العصر ويأتي في ذيل القائمة العلمانيون الذين يريدون عالما إسلاميا مختزلا للدين في الدوائر الخاصة علي غرار الديمقراطيات الغربية؛ حيث الفصل بين الدولة والكنيسة. وتري اجهزة الاستخبارات الامريكية أن هذه المجموعات الأربع ذات مواقف متباينة تمامًا بصدد تلك القضايا التي بات لديها حساسية قصوي في عالمنا الإسلامي؛ مثل قضية التحرر السياسي والاقتصادي والتعليم ووضع المرأة وشرعية الإصلاح والتغيير وكيفية التعامل مع الغرب. فأما الأصوليون فهم يتبنون الاتجاه المناهض والرافض للغرب عامة وللولايات المتحدة خاصة، والسعي قدما وبدرجات متفاوتة إلي القضاء علي الحداثة الديمقراطية. ومن هذا المنطلق كان تأييد هذه المجموعة لا جدال فيه إلا إذا كان الأمر متعلقًا باعتبارات تكتيكية مؤقتة. وأما التقليديون فهم يتبنون -بشكل عام- رؤي أكثر اعتدالا ووسطية، إلا أنهم لا يمثلون شريحة واحدة، بل شرائح متعددة ومختلفة؛ فمنهم -مثلا- من يقترب فكريا مع الأصوليين.. وفي النهاية لا يمكننا اعتبار أي أحد منهم -من التقليديين- ذا قناعة كاملة بالديمقراطية الحديثة، أو بثقافة الحداثة، وحتي إذا كانت لديه قناعة فهي تكون بالكاد. وأخيرًا يتبقي لنا مجموعتان، نظن أنهما الأقرب إلي الغرب، إذا ما تحدثنا عن القيم والسياسات، هاتأن المجموعتان هما: الحداثيون والعلمانيون، إلا أنهما -مقارنة بالمجموعات الأخري- يعتبران الأضعف من حيث المصادر التمويلية ومن حيث البنية التحتية الفعالة أيضاً والقدرة علي التأثير في الشارع ، هذا بالإضافة إلي افتقاد قوي المجموعتين إلي منبر جماهيري معبر صلب أما المشكلة التي قد تواجه العلمانيين بصفة خاصة؛ هي عدم مقدرتهم علي مخاطبة القطاع التقليدي المتواجد في قلب الجمهور الإسلامي. وبالرغم من أن الإسلام "التقليدي الذي يمثله الإخوان يتضمن العناصر الديمقراطية التي تمكنه من محاصرة ذلك الإسلام "المتسلط القمعي" من وجهة نظرهم الذي يتبناه الأصوليون والسلفيون؛ فإنه لا يستطيع التماشي مع "قاطرة" الإسلام "الديمقراطي". إنما يقع هذا الدور علي عاتق الحداثيين الإسلاميين الذين أحبطت فاعليتهم وقوضت حماستهم علي يد الكثير من المعوقين. وتري المراكز البحثية الاستخباراتية أنه من أجل إحداث تطور حقيقي في العالم الإسلامي، ومن أجل توجيهه وتحويله صوب المزيد من الديمقراطية والحداثة والتأقلم مع النظام العالمي الجديد.. تحتاج الولاياتالمتحدة -كما يحتاج الغرب- إلي النظر بإمعان وتدقيق في تلك العناصر والتيارات والقوي الإسلامية.. التي من الصالح ومن اللازم تدعيمها؛ وكذلك النظر بإمعان وتدقيق في ماهية الأهداف والقيم التي تتبناها القوي الإسلامية المختلفة، والآثار المستقبلية التي ستعود علي الولاياتالمتحدة إذا ما تم تطبيق الأجندات المصاحبة لكل تيار. وهذا الاقتراب -الذي ستعرضه "الموجز" - يمثل رؤية واضحة لكيفية تعامل دوائر صنع القرار الامريكي مع ما افرزته اجهزتها البحثية في هذا الصدد. في البداية اجمعت كل المراكز البحثية علي حقيقة مهمة وامر واقع وهو ضرورة دعم امريكا للمسلمين الحداثيين أو المستنيرين والمتمثلين في جماعة الإخوان المسلمين عن طريق القيام بنشر وتوزيع أعمالهم بأسعار مدعمة وتشجيعهم علي مخاطبة الجماهير والشباب والكتابة إليهم وتقديم آرائهم في مناهج التعليم الإسلامي ومنحهم منبرًا جماهيريا يعبرون من خلاله عن وجهات نظرهم. هذا إلي جانب دعم رؤيتهم وأحكامهم الشرعية تجاه المسائل الجذرية التي كثيرًا ما تثار في الخطاب الإسلامي في متناول أيدي الجماهير، كنوع من المنافسة مع الأصوليين والتقليديين الذين يمتلكون قنوات إعلامية وتعريفية متعددة، من مواقع علي الإنترنت، إلي دور للنشر، ومدارس، ومعاهد، وقنوات أخري كثيرة تساعدهم علي ترويج أفكارهم ونشرها. أيضاً المساعدة علي تنمية المنظمات المدنية المستقلة؛ بهدف الترويج للثقافة المدنية، وتوفير مساحة للمواطنين العاديين لكي يُثقفوا أنفسهم حول العملية السياسية، وتدريبهم علي التعبير عن آرائهم. وهناك طريق اخر تمثل في دعم الإخوان المسلمين ضد الأصوليين بنشر وترويج النقد التقليدي للعنف والتشدد الأصولي، وتغذية نقاط الاختلاف بينهم وبين الأصوليين ودحض أي فرصة للتقارب أو التحالف بين التقليديين والأصوليين. وتدريب وتثقيف شباب الإخوان لجعلهم أكثر دراية وخبرة في مجادلة الأصوليين؛ فالأصوليون معروفون بتفوقهم النوعي في الخطاب، بينما يُعرف التقليديون بخطابهم السياسي غير المؤثر؛ خطاب "الإسلام الشعبي". بالاضافة إلي تأييد الاتجاه الصوفي، ونشره، والدعوة إليه والتمييز والتفريق بين الفئات المتباينة والمختلفة في داخل التيار التقليدي، ومن ثم تأييد تلك التوجهات التقليدية الأقرب للحداثة، مثل المدرسة الحنفية، وتمكينها من إصدار أحكام دينية، وترويج تلك الأحكام؛ بهدف إضعاف التوجه الوهابي، وإضعاف أحكامه الدينية المتأخرة. وقد يتعلق الأمر أيضًا بقضيتي التمويل والوعي؛ فلا بد من تقويض منافذ التمويل الوهابي التي تدعم المدرسة الحنبلية؛ وكذلك لا بد من تقويض الوعي الوهابي لكونه يمنع الكثير من المسلمين من التعرف علي مواطن التجديد والتحديث التي شهدها الفقه الإسلامي، سواء من ناحية التنظير أو من ناحية التطبيق. أما الطريق الثالث الذي تحدثت عنه الدراسة فهو مواجهة ومعارضة الأصوليين أو السلفيين بدحض نظرياتهم حول الإسلام، وإظهار عدم دقتها وصحتها وإظهار اتصالاتهم وعلاقاتهم بالجماعات والنشاطات غير القانونية. ونشر العواقب الوخيمة الناتجة عن أعمال العنف التي ينتهجونها وإبداء قدراتهم الهشة في الحكم، وإمكانياتهم الضعيفة في الوصول إلي تنمية حقيقية تفيد مجتمعاتهم وتوصيل هذه الرسائل -التي ذكرناها - إلي الشباب المسلم، وإلي الجموع الغفيرة. من المتدينين التقليديين، وإلي الأقليات المسلمة في الغرب، وأخيرًا إلي المرأة المسلمة. وأوصت الدراسة بضرورة تجنب إظهار أي بادرة احترام أو تقدير لأعمال العنف التي يتبنونها، وصبهم جميعًا في قالب "الجبناء" و"المخبولين"، وليس "الأبطال الأشرار". وتغذية عوامل الفرقة بينهم ودفع الصحفيين للتنقيب والبحث في جميع القضايا المهينة التي يمكن أن تشوبهم وتنال منهم، مثل الفساد والنفاق وسوء الأدب. وتحدثت الدراسة في الوسيلة الاخيرة حول ضرورة تأييد المناهضين للأصوليين، والوقوف معهم في نفس الخندق لمحاربتهم، ولكن علي الناحية الأخري محاصرة أي تحالف علماني مع القوي المعارضة للولايات المتحدة؛ سواء علي الأرضية الوطنية أو الأرضية اليسارية. وبغض النظر عن الجماعة التي سيتم اختيارها قالت الدراسة إننا ننصح ونشد علي أيدي المنفذين بأخذ الحذر الشديد -عند قيامهم بتلك المهمة- غير غافلين عن إدراك الآثار المترتبة علي التنسيقات التي ستحدث بين صناع القرار الأمريكيين وأولئك النشطاء الإسلاميين.. بمعني آخر: ما ستسفر عنه هذه التنسيقات بالنسبة للنشطاء الإسلاميين الآخرين غير المدرجين في خريطة الإدراك الأمريكي؛ مما يمكن أن يكون له تأثيره السلبي علي الجماعات التي نسعي إلي مساعدتها. وشددت الدراسات البحثية علي خطورة الفصيل السلفي والفصائل الجهادية واوصت الفصيل الإخواني بضرورة التخلص منهم فور أن تسنح الفرصة بذلك مع ضرورة عدم ترك فرص كبيرة لتمددهم الفكري بالمنطقة.