"هناك في روح وجسد كل إنسان ينبوع أو جدول" يجري من حيثُ لايدري ويغذي كل الأماكن السحيقة والنائية في تلك الروح أو ذلك الجسد بالدهشة العذبة, فيرتقي به إذا ما أحسن التصرف بها وحافظ على وداعة جريانها الإنساني, وما مكان الطفولة الأول والعشق الأول إلا أهم روافدها. القرية التي احتضنت طفولة فنانا المبدع الدكتور حسيني علي محمد.. كانت هي ذلك الجدول الذي يغذي ويرفد تجربته الإبداعية بتلك الصور المليئة بالحساسية العالية باللون والخط والظل والضوء حتى تحيلك تجربتهُ الى مرجعيات بصرية ونصية كثيرة عبَّر من خلالها عن روح الحياة المصرية المعاصرة وعن طبيعتها, من خلال وحدات البناء للنص البصري في تجربته والتي أخذ الإنسان فيها كعنصر مؤثر ومسيّر للحدث وللرؤيا التي تعتري لحظة الفعل تلك, خلال مسار زمني يستمد رموزهُ وعناصرهُ من طبيعة الحياة المصرية الممتدة على امتداد حوض النيل. لم تكن مصادفة أن تشكل المرأة العنصر المهم والطاغي في أعمال فنانا, اذ تُعد المرأة مرتكزا أساسيا وعنصرا حيويا يجتذب بقية العناصر لتدور حوله, وكأن المرأة هي القطب الذي يجتذب بقية العناصر, ويعود ذلك لدورها في ريف الحياة المصرية إذ يشكل دور المرأة أكثر من نصف المجتمع من خلال عملها في الحقل أو البيت, ودورها كأم, وزوجة وحبيبة وأخت, هي ذلك الكائن الذي يمتلك القدرة على التوهج والانفتاح والتأقلم سايكولوجيا مع متغيرات البيئتين الداخلية والخارجية, وتتفاعل بشكل مذهل مع الظروف التي تحيط بالعناصر المحيطة بها, وهذا ما سعى إليه الفنان (حسيني) في تجسيده من خلال عدد من الأعمال خصوصا الأعمال التي اشتغلها بالحبر الأسود, فكانت المرأة هي التي تتسيد مساحة الاشتغال, ولم يكتف فناننا بذلك بل جعل من جسدها مساحة اشتغال ثانية لعناصر وأشكال أخرى, كانت أيضا المرأة جزءا منهُ وكأنه هنا يؤكد على حالة التناسل التي تبدأ من المرأة وتنتهي الى الأرض التي هي الأم الافتراضية للإنسان بشكل عام والمرأة بشكل خاص. أذاً المرأة بعتبارها العشق الأول للأبن ومن ثم هي الحبيبة في حالة العشق الأخرى, هذه الحالة تؤرخ حالة زمنية لذلك المكان, وتعطي لهُ نوعا من القدسية المكانية في طور زمني معين, لذلك تصبح صور ذلك المكان لا تبرح ذاكرة الإنسان والمبدع, هي أشبه بمستودع جمالي لصور حسية وروحية, كلما يتذكر الفنان تلك الحالة الحسية أو الروحية التي مرت به, أصبح في حالة من النشوة وهو يعيش الحالة البصرية التي يسترجعها, وهذا ما يغذي خياله ويجعل ذلك الينبوع يتدفق في روحه بأجمل الألوان والطيف الحسي, وهذا الشيء جدا مهم في العملية الأبداعية. لذلك نحن قد نرى مجموعة من الفتيات أو النسوة في اللوحة الواحدة, ولكن كل امرأة جعلها الفنان تسرد إلينا حالة من البوح, بالتأكيد هي حالة جمالية حتى لو كانت محزنة أحياناً, لذلك كانت المرأة تأخذ أحجام كبيرة في أعماله بالأبيض والأسود (الحبر) وهو يحدد شكلها الخارجي ويرسم بعض تفاصيلها الداخلية بخطوط في غاية الروعة الجمالية مستخدما قلم الحبر, وهذا ما جعل لخبرته دورا كبيرا ومهما في إكساب أعماله تلك الجرأة المهمة في العمل الفني, ونقصد هنا, حالة الصياغة والتداخل لخطوط أجساد المرأة, في اعتقادي أن هذه الأحجام التي لجأ إليها الفنان حسيني علي محمد، كانت تمثل جزءا من الحالة السايكولوجية لحظة تدوين النص البصري. إنهن نساء يحملن عبق الماضي وعطر أنوثتهن يملأ أزقة ذاكرته, حتى كأن ذاكرة الفنان أصبحت على صلة بخيط من النور مع ذلك المكان, وهو قرية طفولته والأماكن التي انتقل إليها خلال مراحل الطفولة والصبا, ونجد أيضا أن المرأة تظهر غالبا بالطابع الشكلي الفرعوني من حيث ضخامة الأجسام وتصفيف الشعر والقلائد التي ترتديها, وتأخذ تفاصيل لبسها وشكلها أكثر اهتماما لدى الفنان, وأعتقد أن غياب اللون في هذ الأعمال يعطي الحرية للفنان في البحث عن تفاصيل وخطوط وأشكال تعطي للعمل قيمة فنية وتكنيك حركي أكثر من العمل الملون, لسبب أن العمل الملون قد يعطي للكتل اللونية وحركتها وتجانسها دورا أكبر, لكن هناك السبب الآخر المهم, وهو الفكرة التي يدونها الفنان ويريد ايصالها للمتلقي. إن هذه المرأة القروية وحتى بنت المدينة هي ابنة تلك المرأة الفرعونية القوية التي كانت تقف الى جانب الرجل في صناعة إحدى أهم الحضارات التي عرفتها البشرية, لذلك هو كان يريد أن يعطي مضمونا فكريا وفنيا لهذا العنصر الذي يشكل جوهر التجربة الإبداعية لأعماله. إن حالة البناء لدى الفنان (حسيني) بالأبيض والأسود تأخذ أحيانا مسارين .. المسار الأول .. استخدام شكل الهندسة البنائية للقرية أو المدينة القديمة, وأحيانا يتلاعب في حالة الميلان لهذا الشكل الهندسي أو ذاك, بعد أن دون ورسم في داخل حدوده الأشكال والعناصر التي يريدها, وهنا الميلان الذي يلجأ إليه فناننا قد يبدو تصوير خلل لظاهرة أو حالة أجتماعية معينة, لذلك تبدو وجوه النسوة في حالة تعبيرية تعطي ملامح للجوسايكولوجي الذي تعيشه تلك النسوة, كما نجد ذلك في أحد الأعمال, لكن الفنان يتخذ من وجود الطيور حالة طقسية ترافق النسوة في هذا العمل وباقي الأعمال.. ليجعل المتلقي عنصرا فعالا في تفسير وإعطاء العمل أكثر من تفسير وهو يحلق في فضاء العمل. المسار الثاني .. استخدام بناء شكل الشجرة كوعاء وشكل يحتوي ويضم باقي الأشكال, وهذا البناء يعطي للفنان للتلاعب بين الفراغ السلبي (الأبيض) والفراغ الإيجابي الذي يحتوي الأشكال والخطوط, وهنا أحيانا لا يعطي الفنان أهمية للموازنة بين الفراغ السلبي والإيجابي المرسوم, بقدر ما يهتم بحالة استغلال الجزء المرسوم لتدوين النص المطلوب في العمل. أما أعماله الملونة نجد أن الفنان حسيني ينطلق الى عوالم لونية رائعة ومليئة بجمال لوني ساحر, فذاكرته مكتنزة بالعديد من الصور والمشاهد اللونية التي أعطت له مساحة حلمية تتسع كلما غاص بذاكرته الى طور الطفولة الأول الى نهر العشق الأول الذي غرف منهُ كل هذه الصور العذبة, ففي إحدى اللوحات نرى كيف صوَّر سحر الطبيعة في جو حركي طيفي لأشجار النخيل يقترب فيه الفنان من الحالة السريالية الحالمة, بحيث جعل للون الأحمر ذاك التضاد اللوني الخلاب مع اللون الأخضر للأشجار والنباتات. واللون الأحمر هنا كان يمثل حالة حلمية وعاطفية مرت بوجدان الفنان, فهو يشكل اللون وفق إحساسه بتلك اللحظة المعاشة, وأثرها فيه. تشكل القرية ذلك المكان الذي يبوح بقوة في وجدان الفنان ويحيله الى الماضي بعد سلسلة من التداعيات الحسية والصورية لمشاهد تستوطن ذاكرته ووجدانه, مستخدما الألوان المائية والأحبار الملونة وعددا من أقلام التلوين التي تخدم تجربته, وأعتقد أن فناننا حسيني قد طوع هذه الألوان والتقنية التي يستخدمها بشكل متميز, بحيث قدم للمتلقي مساحات لونية شكَّل من خلالها تكويناته اللونية الشفافة بشكل متميز, وأظهرت تراكم الخبرات لديه تلك القدرة على التلاعب في التكوينات اللونية التي يشكلها والتي غالبا تحتاج الى انسيابية وقوة في الخط يضاف لذلك حدّة الخطوط الخارجية للشكل أو العنصر المرسوم ما يضفي قوة للنص المدون الذي يريد الفنان أن يبهر به المتلقي ويتوقف عنده. الشيء الملفت للنظر في الأعمال الملونة للحسيني هو مقدرته على الجمع بين شفافية انسيابية اللون وهذا ما يميز الألوان المائية والأحبار وبين قوة الخطوط الخارجية والتي تشكل الحدود الفاصلة للكتل اللونية. الحسيني جعل من اقتران المرأة بالقرية والمدينة شيئا مهما في تجربته, وكأنهُ يريد أن يجعل من المرأة الوجه الآخر لها, فالمرأة نجدها في أعماله الملوَّنة تظهر بشكل ساحر وفاتن أكثر مما شاهدنا ذلك في الأعمال غير الملونة. السؤال هنا.. هل كان يريد فناننا أن يعطي للقرية أو المدينة صفة الأنوثة أو هي قرينة لها, قد يكون كذلك, وممكن أن فناننا أراد أن يعطي للمدينة أو القرية أكثر من بعد, منها الاقتران الجمالي, وكذلك الاقتران الحيوي بحيث تعطي المرأة للقرية والمدينة ذلك الزخم الحركي المتوهج الذي يقترن بالجانب الشكلي للمرأة والبعد الروحي منها، وهذا ما نجده في أكثر من عمل بحيث يجد المتلقي أن أعماله الملونة يأخذ الفرح والمرح للأطفال والنساء مساحة كبيرة وجميلة, مستندا فناننا في إظهار ذلك الى حالة التضاد اللوني بين الألوان الحارة والباردة. تجربة الفنان الدكتور حسيني علي محمد هي تجربة جمالية ووجدانية رائعة تستحق منّا المتابعة, للوقوف على بعض جوانبها الجمالية والفنية, كان للمكان فيها ذلك الألق والنور المتدفق كالنهر في روح الفنان ليضيء لهُ ولنا مساحات جمالية وإنسانية أكثر من رائعة, تسحرنا بتوهجها ولوعتها الجمالية المفرحة. إنهُ يرسم الفرح ويعيد لأنسانيتنا شيئا نحن أحوج إليه في هذا الزمن الطاعن بالخراب.