مع نهاية الحرب العالمية الثانية فرضت الولاياتالمتحدة نفسها كقوى عظمى في النظام الدولي تتنافس مع المعسكر الشرقي والمتمثل في الاتحاد السوفيتي حاول الطرفان بسط نفوذهما على أكبر عدد من الدول العالم لخلق توازنات للقوة في العديد من المناطق الأمر الذي انعكس على طبيعة السياسة الخارجية المصرية. حاول الرئيس عبدالناصر انتهاج مبدأ الاستقلالية والخروج من حالة الصراع الدولي التي كانت دائرة بين المعسكريين الشرقي والغربي بإعلانه مبدأ عدم الإنحياز، كما رفض التدخل الأمريكي في الشأن الداخلي لمصر والانضمام إلى المعسكر الغربي الرأسمالي، وذلك لأن الاتحاد السوفيتى لم يقدم على أى خطوة أو إجراء عدوانى ضد مصر، كما أن الشيوعية ليست خطرًا على الشعب المصرى لأنه ذات طبيعة متدنية بشكل أصيل. بدأت المحاولات الأمريكية بالفشل في احتواء "عبدالناصر"، ومن ذلك الحين بدأت تتبلور مواطن العداء لدى القيادات الحاكمة في مصر والولاياتالمتحدة فبالنسبة لواشنطن فإنها أدركت مدى خطورة النظام الثوري الحاكم في مصر على تنامي مصالحها في المنطقة ومدى تهديده لإسرائيل، ومن جانب آخر أدركت القيادة المصرية أن "تل أبيب" هى العدو الأول للعرب وأن حليفها الاستراتيجي هو واشنطن والداعم لمشروعها الاستيطانى الصهيوني. سعى "عبدالناصر" إلى الكشف عن مشروعه القومي على أساس بناء دولة مصرية قوية سياسيًا واقتصادًا واجتماعيًا لديها استقلالية في صناعة القرار الداخلي، إيمانًا منه بدور مصر المحوري في ريادة المنطقة العربية علاوة على الرغبة في توحيد العرب والتي لن تتحقق إلا بتحرير فلسطين. جاءت هذه القناعات خلال الزيارات بين البلدين وخاصةً بعد انتخاب الرئيس الأمريكي "إيزنهاور"، عندما أرسل وزير خارجيته "جون فوستر دالاس"، عام 1953 لدعوة مصر لسياسة تطويق الاتحاد السوفيتي ودمج القاهرة في سياسة الأحلاف الغربية وقواعدها العسكرية. ترجم "عبدالناصر" هذه القناعات بشكل إيجابي من خلال تزعمه مؤتمر "باندونج" في 1955 لدعوة عدم الإنحياز على طرف دون الآخر. كما بدأ في الاعتراف بالصين الشعبية، والتقرب من السوفيت من خلال إبرام أول صفقة سلاح "صفقة الأسلحة التشيكية" بعد رفض واشنطن تسليح الجيش المصري للرد على الإعتداءات والإنتهاكات التي كانت تتعرض لها قطاع غزه. بدأت مرحلة الردع الصامت لتحركات "ناصر" الخارجية من خلال الإقرار بإلغاء تمويل السد العالي، والضغط على البنك الدولى لرفض تمويل المشروع، الأمر الذي انعكس بشكل عميق على القرار السياسي المصري الذي حاول التصدي لهذا التعنت من خلال تأميم قناة السويس كشركة مساهمة مصرية في يونيو 1956 ، هنا بدا الرد غير المباشر للولايات المتحدة من خلال عدوان 1956 بقيادة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر لتوجيه ضربة قاسمة للدولة المصرية نتيجة محاولتها الإفلات من التبعية الأمريكية. حاول الرئيس "إيزنهاور" عام 1957 وضع خطة جديدة للمنطقة العربية لاحتواء التدهور الأمني في المنطقة مدعيًا الرغبة في مساعدة الدول العربية في تحقيق تنميتها بهدف الهيمنة الأمريكية على القرار العربي. جاء الرفض المصري في شكل حاسم بالاستفتاء الشعبي في مصر وسوريا لإعلان الوحدة بينهما في فبراير 1958. تصاعدت وتيرة المواجهات بين الطرفين نتيجة النفوذ المصري القوي على المستوى الإقليمي والدولي الذي تجلى في دعم الثورة اليمنية ضد مؤمرات الانفصال، والتدخل في الثورة العراقية في يوليو 1958، وخاصة بعد محاولة العراق الانضمام إلى دولة الوحدة المصرية –السورية، إلا أن الأوضاع تغيرت بشكل كبير نتيجة انهيار الوحدة المصرية السورية في سبتمبر 1961، وفي عام 1961أرسل الرئيس الأمريكي "جون كيندي" خطابًا إلى الرئيس "عبد الناصر" يعرض عليه رغبة الولاياتالمتحدة فى تسوية النزاع العربى الإسرائيلي. فكان الرد المصري أن الطريق الوحيد للتسوية عن طريق تحرير الأراضي العربية من قبضة العدو الصهيوني. أثناء حكم عبدالناصر قدمت واشنطن مساعدات إلى القاهرة, واتخذت عدة أنماط جاءت في البداية على هيئة توريدات لشحنات القمح الأمريكي، وكان ذلك بداية عام 1953، ولم يكد يحل عام 1956 حتى بلغت المساعدات نحو 19 مليون دولار، إلا إنها قامت بتجميدها كعقاب رادع على قرار تأميم قناة السويس. في أعقاب التعنت الأمريكي بسحب عرضها لتمويل السد العالي، وبعد عامين من حرب السويس سعى الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" إلى استئناف العلاقات مع القاهرة، الأمر الذي ترتب عليه إبرام ثلاث اتفاقيات تحت مظلة "برنامج القانون العام 480 لفائض الحاصلات الزراعية" بقيمة 164 مليون دولار. ومع تولي "جون كيندي" مقاليد الحكم, حاول توطيد العلاقات لتحييد الدور السوفيتي في مصر وهو ما تجلى استجابته في فبراير 1962 إلى مطالب الرئيس "عبدالناصر" لتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية، حيث قام بإرسال وفدًا برئاسة "إدوارد ماسون"، الذي أوصى باستمرار المساعدات تجنبًا لزيادة الاعتماد المصري على الاتحاد السوفيتي، وبناء على ذلك قرر "كيندي" تقديم مساعدات بقيمة 390 مليون دولار رغم معارضة الكونجرس ، إلا أنها توقفت مرة أخرى؛ في أعقاب الدعم المصري للثورة اليمينة التي أطاحت بالنظام الملكي الموالي للمملكة العربية السعودية, لذا استمرت الولاياتالمتحدة بالضغط على الدول العربية لتسير مصالح حليفها الاستراتيجي في المنطقة، والتي تجلت في القرار الإسرائيلى بتحويل مجرى نهر الأردن عام 1964، وعدوان يونيو 1967. اختلس العدو الصهيوني انتصاره واعتبره نهاية مشروع "عبدالناصر" وبداية إحكام قبضته على المنطقة, واعتبر أن المعركة حسمت بشكل نهائي، لكن هذه الاعتقاد تم اسقاطه في المرة الأولي علي يد الشعب المصري الذي خرج رافضًا الهزيمة وتنحي "عبدالناصر"، مصرًا على الحرب لتحرير الأرض بقيادة "ناصر"، والمرة الثانية على يد الجيش المصري الذي استطاع هزيمة العدو الذي لا يقهر كما يتم الترويج عنه من خلال استراتيجية عسكرية تجمع ما بين الدفاع والهجوم في آن واحد لتلقينه درسًا مصريًا تاريخيًا عام 1973. بدأت المواجهة المشكوفة والصراع المفتوح في العلاقات المصرية الأمريكية عبر إعادة بناء القوات المسلحة بالاستعانة بالحليف السوفيتي، وتهيئة الشعب المصري للتخلص من الآثار النفسية للهزيمة. تجسدت هذه الإجراءات على أرض الواقع بتوقيع القاهرة اتفاقيتين مع الاتحاد السوفيتي لإعادة بناء القوات المسلحة. واحدة خاصة بالتسليح، والثانية خاصة بالمستشارين العسكريين، وذلك للمساندة في إعادة بناء مسرح العمليات الخاصة بمعركة التحرير ، جاء هذا الدعم السوفيتي بعد عدوان 1967، لمساندة مصر عسكريًا نتيجة ما تعرضت له من خسار جراء هذا العدوان الغاشم الذي تعرضت له الأراضي العربية. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل سعت القيادة السوفيتية إلى إلغاء 50% من ديون مصر العسكرية لدى الاتحاد السوفيتى من عام 1955- 1968. هذا بجانب حضور العديد من المستشاريين السوفيت لمساعدة القوات المصرية. بدأت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية في إطار التحرك المصري الداخلي والخارجي تمهيدًا للحرب ولكن لم يتم الإعلان عنها إلا من خلال تكوين حائط دفاعي قوي لصد الضربات الإسرائيلية خصوصا بعد حصول الكيان الصهيوني على أحدث المعدات والأسلحة المقاتلة كانت أبرزها طائرات من طراز "سكاي هوك"، "فانتوم"، والتي استطاعت الوصول إلى العمق الاستراتيجي الأمر الذي اعتبره "عبدالناصر" خط أحمر لذا قام بزيارة سرية لموسكو في يناير 1970 للحصول على حائط صواريخ من طراز "سام" و"ستريلا" لتكون هذه الصواريخ دفاعا جويا مضادا للطائرات للدفاع عن الصواريخ استعدادًا لمواجهة هذا العدو الغاشم, بالتزامن مع التحركات المصرية في سياق حرب الاستنزاف دخلت الولاياتالمتحدة على خط الوساطة لوقف إطلاق النار بشكل مؤقت في أغسطس 1970 من خلال مبادرة وزير الخارجية الأمريكى "ويليام روجرز". تراوحت العلاقات المصرية الأمريكية في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ما بين الشد والجذب بل وصلت إلى حد اتخاذ مصر قرارًا بقطع العلاقات السياسية مع الولاياتالمتحدة عام 1967. اعتمد ناصر في سياساته الخارجية على الندية والاعتماد المتبادل والتصدي لكافة محاولة الهيمنة الخارجية والتي تسعى من خلالها القوى الكبري تنفيذ أطماعها التوسعية في المنطقة العربية , وبموت جمال عبدالناصر انهار حائط السد المنيع أمام الأطماع الغربية في المنطقة العربية.