ألقى الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو- اليوم في سراييفو، محاضرة في (مؤسسة سراييفو للمجتمعات والقيم المشتركة) بدعوة من رئيسها المؤسس البروفيسور زلاتكو لاقومزيجا، حول موضوع (المجتمعات المشتركة في ظل حوار الحضارات لمواجهة تحديات التطرف). واستهل الدكتور التويجري محاضرته بتحديد مفهوم المجتمعات المشتركة، فقال إن المجتمعات البشرية لا تكون مشتركة إلا إذا كانت لها قيم جامعة بينها، ترقى إلى مستوى القيم المشتركة، موضحاً أن هذا المفهوم العلمي الثابت لا يعني التطابق في القسمات العرقية والخصوصيات الثقافية والسمات الحضارية وفي أساليب العيش وأنماط الحياة، وبيَّن أن المجتمعات المشتركة تحتفظ بطوابعها الاجتماعية، كما تحتفظ بأنظمتها السياسية، لأن ما يجمع بينها هو القيم ذات الأصول المختلفة. فهي التي تقيم بينها جسوراً للتلاقي وللتقارب وللتعايش. وذكر أن هذه المنطقة من أوروبا قد عرفت صراعات عرقية وصدامات ثقافية وعاشت حروباً في أزمنة متعاقبة، عانت شعوبها خلالها من الكوارث السياسية والأزمات الاجتماعية، على الرغم من القيم المشتركة التي تجمع بينها، وأن ذلك كله لا يعود إلى فساد هذه القيم التي تتشارك فيها، بقدر ما يعود إلى فساد الإرادة السياسية في مراحل تاريخية سابقة، التي أبت إلا الخروج عن القاعدة المطردة من التفاهم والتعايش والتسامح التي هي مصدر للحياة المستقرة للمجتمعات المشتركة في أي منطقة من العالم. وأبرز أهمية الإرادة السياسية الملتزمة بالقواعد الأخلاقية وبالقيم المشتركة بين الأمم والشعوب، والمحكومة بضوابط الديمقراطية الحق، مشيراً إلى أن المآسي الكثيرة التي عرفتها الشعوب في هذه المنطقة، كان مصدرها غياب تطبيق القانون واحترام ميثاق الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقال في تلك الأجواء من الانغلاق والاستبداد والغطرسة والإغراق في الكراهية والعنصرية والاحتكام إلى القوة، غاب الحوار بين الثقافات والحضارات وأتباع الأديان، فسقطت المجتمعات المشتركة في هذا الجزء من العالم، كما في أجزاء أخرى من الأرض، في مستنقعات الصراع والدمار والكراهية، وأصبحت مجتمعات متنافرة، متطاحنة، مشتبكة مع بعضها بعضاً في صراعات عنيفة، تتحول في أحايين كثيرة، إلى صراعات دامية. وتحدث عن ضرورة تعزيز الحوار الوطني، الذي هو الحوار الداخلي الذي له مسالك عديدة، من أجل دعم الوئام الأهلي، وترسيخ الوفاق الوطني، وتعزيز قيم المواطنة، وتقوية لحمة الوحدة الوطنية التي هي الجدار الصلب القويّ الواقي من التصدّع وانفراط العقد الاجتماعي. وقال إن هذه هي القيم التي ينبغي أن تسود المجتمعات المشتركة في هذه المنطقة من أوروبا، وفي جميع المجتمعات الإنسانية من دون استثناء. وشرح مفهوم التطرف، فقال إنه الميل عن جادة الاستواء في الفكر وفي السلوك، في التصور وفي الممارسة. مما يعني أن التطرف هو الجنوح نحو الخروج عن طبيعة الأشياء التي هي الاعتدال والوسطية والتوازن والتماسك والحفاظ على منظومة القيم التي تسود في مجتمع ما، والتي هي مكارم الأخلاق، موضحاً أنه كلما وقع الانحراف عن هذه الأنماط من السلوك الإنساني، حصل الانحراف نحو التطرف الذي يبدأ داخلياً، على مستوى الفهم المنحرف الذي يترجم إلى السلوك المتطرف، حتى يصبح حالة شاذة تدفع صاحبها نحو ممارسة التطرف الذي يلحق الضرر بالأفراد وبالجماعات على حد سواء، ويشكل خطراً جسيماً على سلامة المجتمع وأمنه واستقراره. وقال المحاضر إن للتطرف تحديات واجبة المواجهة بقدر أكبر من الحزم والحسم وتضافر الجهود الدولية على جميع الأصعدة. وأضاف قائلاً : إذا كانت الوسائل المادية هي الأقوى تأثيراً في التعامل مع هذه التحديات ومواجهتها والحدّ من مضاعفاتها والتصدّي لمخاطرها، فإن هذه الوسائل لابد أن يتم اعتمادها بالموازاة مع الوسائل الثقافية والفكرية والإعلامية، مع الاستناد إلى الخطاب الديني المعتدل الذي يتوجه إلى الضمائر لإحيائها، وينفذ إلى العقول لترشيدها وتوجيهها الوجهة المستقيمة. فالعوامل الثقافية لها تأثيرها الفاعل في القضاء على التطرف بكل أشكاله، وهي لا تقل أهمية عن العوامل الأخرى، على اعتبار أن التطرف يبدأ بالانحراف في الفكر والاختلال في التوجّه الثقافي، وأن الإرهاب ينطلق من فساد في العقيدة ينقلب إلى انحراف في السلوك وجنوح إلى الإجرام. وأوضح أن الحوار بين الحضارات في المجتمعات المشتركة، هو الدعامة القوية للوئام الأهلي، والوسيلة الفعالة لتعزيز التناغم والانسجام بين الشعوب التي تنتمي إليها تلك المجتمعات، وأن المشاركة في الحوار على هذا المستوى، هي دعمٌ قويٌّ للعناصر المشتركة بين هذه المجتمعات، وأن في ذلك حصانة لها ضد التفرقة والنزاع والصراع بكل أشكاله، وتعزيزاً للقدرات لمواجهة المخاطر الناتجة عن التطرف وما يترتّب عليه من تحديات شتى، ولمحاربة الإرهاب واجتثاث جذوره، ولنشر قيم التسامح والتفاهم والعيش المشترك في إطار القانون والاحترام المتبادل للخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية لكل مجتمع. وقال أيضاً إن للتطرف تحديات كثيرة، بعضُها تحديات ضارية وشديدة الخطورة على أمن المجتمعات المشتركة، لأنها تمس الأسس التي تقوم عليها، وتنعكس آثارها المدمرة على القيم المشتركة بينها، ولذلك كان حوار الحضارات في المجتمعات المشتركة، ضرورة حياتية يُمليها الحرصُ على اتقاء المخاطر الجمّة التي تنطوي عليها تلك التحديات، وفي هذه الحال يكون الحوار بين الحضارات حواراً وطنياً في الأساس، وحواراً بين الثقافات المشتركة، الأمر الذي يجعل مواجهة تحديات التطرف من خلال حوار الحضارات، قضيةً بالغة الأهمية، خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة التي يجتازها العالم، والتي تَتَفَاقَمُ فيها الأزمات الإقليمية والدولية، وتَتَزَايَدُ المخاطر الناتجة عن استفحال ظاهرة الإرهاب، وانتشار التطرف على نطاق واسع. وخلص الدكتور عبد العزيز التويجري إلى القول إن حوار الحضارات في ظل الديمقراطيات الناشئة، كما في المجتمعات المشتركة في هذه المنطقة من أوروبا وفي غيرها من مناطق العالم، يكتسب قيمة مهمة من القيم الإنسانية العليا، لما له من تأثير إيجابي على الاختيار الديمقراطي، وعلى قيم العيش المشترك، وعلى ترسيخ القواعد لسيادة القانون واحترام إرادة الشعوب، مؤكداً أن الديمقراطيات تنمو في أجواء الحوار بين الحضارات الذي يوفر الفرص للمجتمعات المشتركة للنمو والتقدم والازدهار، باعتبار أن القيم المشتركة بين المجتمعات تَتَوَطَّدُ في المجتمع وتؤثر في سلوك الأفراد والجماعات، كلما ترسّخت المساواة بين البشر، وتعمَّق التفاهم بين الشعوب، وسادت أجواء الوئام بين المجتمعات، خصوصاً منها تلك التي تشترك في القيم الجامعة بينها. واختتم المدير العام للإيسيسكو محاضرته بقوله إن الأسرة الإنسانية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت سابق، بالعودة إلى الأصل الذي يجمعها والصبغة التي صبغها الله بها، وهي أنها خَلْقُ الله، خلقها من نفس واحدة، ولا يجوز أن يكون الاختلاف الثقافي والحضاري والعرقي والديني بينها عامل فرقة وصراع وتطرّف، وإنما جسر تلاقٍ ومحبّةٍ وتعاون.