ذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية في تقرير لها, أن الباحثين من جميع أنحاء العالم يحاولون فهم الدوافع التي تقف خلف الشعور بالاستشهاد، الذي يتوق إليه الإرهابيون. ومما يزيد من تعقيد التفسيرات حقيقة أن هؤلاء القتلة لديهم مدى واسع من الجوانب النفسية. ويُستخدَم تعبير "فَجَّروا أنفسهم" بشكل متزايد في الصحف، وعلى شاشات التلفزيون، لوصف أعمال المفجِّرين الانتحاريين. فما الذي يحدث في عقول الأشخاص الذين يلفون أجسادهم بأحزمة ناسفة لتفجير أكبر قدر ممكن من الدماء؟، وما دوافع الشبان الذين وُلدوا في فرنسا، لتنفيذ هذه الأعمال الإجرامية قبل قتل أنفسهم؟، لقد حاولت كتائب من الباحثين حول العالم فهم دوافع هؤلاء الإرهابيين الذين يدمرون أنفسهم منذ الهجوم الانتحاري ضد السفارة العراقية في بيروت عام 1981 -الذي أسفر عن مقتل 61 شخصاً-والذي سجل بداية سلسلة من العمليات الانتحارية. ففي فرنسا، أخضعت مجلة Etudes sur la mort (دراسات حول الموت) هذا الموضوع لدراسة كاملة. يقول الطبيب النفسي الإيطالي أنطونيو بريتي إن "هذا الانتحار ذي المقصد العدائي له تاريخ طويل. إنه نوع من التضحية حيث يقوم الانتحاري بتدمير كل من يعتقد أنه مسؤول عن فشله. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يجدها أمامه لتحقيق انتقامه. وهذا هو العنف الناجم عن رجل يائس". وفي الإنجيل، يقتل شمشون المقيَّد نفسه بتدمير قصر الفلسطينيين الذين يقمعونه. وخلال احتلال الجليل (66-70 قبل الميلاد)، قامت جماعة "حاملو الخناجر" اليهود بطعن الرومان في الشوارع برغم خطر تعرضهم للقتل. وينظر بعض المؤرخين إليهما باعتبارهما أول "إرهابيين" سياسيين. وعندما خسرت اليابان الحرب في 1945، كان الطيارون الانتحاريون اليابانيون المعروفون باسم "كاميكاز" يصدمون السفن الأمريكية بطائراتهم. وهناك مثال مشابه هو، محمد مراح، الذي نفذ ثلاث عمليات هجوم بالبنادق مستهدفاً الجنود الفرنسيين ومدنيين يهود في مارس 2012، مما أسفر عن مقتل 7 أشخاص، قبل أن يلقى مصرعه برصاص الشرطة الفرنسية. وقدّم نفسه على أنه أحد المجاهدين المشاركين في حرب مقدسة ورد على المفاوضين الفرنسيين بقوله "يقف أمامكم رجل لا يخشى الموت. إنني أعشق الموت كما تعشقون الحياة". من أين ينبع عشقهم للموت؟ لماذا يختارون قتل المدنيين بينما يقتلون أنفسهم في الوقت نفسه؟ تعتقد ، محررة مجلة (دراسات حول الموت)، وأستاذة الأمراض النفسية بجامعة لويس باستير في ستراسبرغ، ماري فريدريك باكيه، بعدم وجود "بنية شخصية" محددة للمفجرين الانتحاريين، حيث يمتلكون مجموعة واسعة من الجوانب السيكولوجية. وتشرح ذلك قائلة: "سيكون من المطمئِن القول بأن تصرفات الكاميكاز تأتي نتيجة سياق تاريخي في عقول محددة: عقول مريضة، مجانين يندفعون نحو مذبحة بحماقة قاتلة. لكننا مضطرين إلى الاعتراف بأن الأمر ليس كذلك". إن الإرهابيين ليسوا مرضى نفسيين، لأنهم يقتلون وهم في كامل وعيهم. فهم قتلة طبيعيون. ومثلما أدت محاكمات نورمبرغ إلى النتيجة التي توصلت إليها الفيلسوفة، حنّا آرنت، ومفادها أن الحالة الطبيعية البسيطة قد تؤدي بالمرء إلى ارتكاب جريمة قتل جماعي، فإننا مضطرين إلى إدراك أن الأشخاص الذين يحملون القنابل ويخطفون الطائرات غالباً ما يكونون أشخاصا "طبيعيين". لا يشرح لنا "الملف الشخصي" للمرء دوافع الانتحاريين، لكن يمكن لعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا مساعدتنا في هذا الصدد. يقدم لنا الأنثروبولوجي، سكوت أتران، الذي التقى مع مقاتلي داعش وجهاديين أوروبيين شبان، بضعة تفسيرات. في خطابه المثير للقلق بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 23 أبريل 2015 ، تحدث أتران عن "الجانب المظلم للعولمة"، مشيراً إلى أن "هناك حفنة من شباب الأوروبيين الذين "يشعرون بالذل" من الطريقة التي يُعامَلون بها هم وآباؤهم، حيث يرون أنهم منبوذون كمسلمين ولا يرون أنفسهم الآن "كفرنسيين أو عرب"، وبدأوا في رفض معايير وقيم المجتمع وهم في "كفاحهم بحثاً عن هوية مجتمعية"، كما يقول. يتجه هؤلاء الشباب إلى التطرف ويبحثون عن صور أخرى من التأثير والوجود "تجلب لهم المعنى والمجد". بيد أن هذا التفسير القائم على "المنشأ" أو مكان المولد لا يفسر لماذا قام شبان فرنسيون بحمل بنادق هجومية، وقتل إخوانهم المواطنين العزل أثناء حضورهم إحدى الحفلات على سبيل المثال. لقد أثارت هذه الجريمة انتقادات غاضبة. وفي الجمعية الوطنية الفرنسية في 25 نوفمبر، عبر رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، عن غضبه قائلاً: "لا يوجد أي عذر نبحث عنه، لا عذر اجتماعي أو سوسيولوجي أو ثقافي". لكن أتران لا يحاول البحث عن أعذار بقدر محاولته الفهم. يقول أتران: "يمكن للبشر المرور بشعور خاص من السعادة عند مواجهة الرعب لأنهم يرونه مظهراً من مظاهر القوى الفائقة غير المحدودة التي لا تفسير لها، وهو شيء أقرب إلى الرعب من الله". إن القتلة الشبان مفتونون بإمكانية إحداث صدمة، لأنها تزودهم بمشاعر قوة هائلة، على حد تعبير خبير الأنثروبولوجيا. إنه نوع من الخوف الذي ينشره الإرهابيون، ذلك الرعب في مواجهة الموت الذي يتحدونه هم أنفسهم، وأحياناً ما يتناولون أقراص الأمفيتامين ليسهل عليهم تنفيذ الجرائم. وسرعان ما يضمنون تغطية إعلامية. يقول أتران: "ولا يعد القرآن أو التعاليم الدينية أكبر مصدر إلهام بالنسبة لهم، وإنما قضية مثيرة ودعوة للتنفيذ تضمن لهم المجد". إن العدمية النشطة كتلك التي كان يدعمها الإرهابي الروسي، سيرغي نيتشايف، أسرت لب أجيال من الشبان الباحثين عن ترك انطباع معين على مدار التاريخ. وهذا ما نقف أمامه اليوم، ولا يُعد أتران هو الشخص الوحيد الذي يقول بذلك. ففي مقالة نشرتها صحيفة "لوموند" بتاريخ 24 نوفمبر، يتحدث إخصائي سياسي هو، أوليفر روي، أيضاً عن "العدمية عبر الأجيال" مقارناً إرهابيي اليوم بحركات السبعينات التي كانت الماركسية مصدر إلهام لها. ويكتب روي قائلاً: "لقد اختاروا الإسلام باعتباره الشيء الوحيد المتوفر في السوق للباحثين عن انتفاضة راديكالية. والانضمام لداعش يعني التأكد من القدرة على تحقيق الرغبة في نشر الرعب". لكن العديد من المتخصصين في العالم الإسلامي يعتقدون أن تحليل العدمية يهمل الأبعاد الدينية والتعصبية والطائفية لهذه الجرائم. ويتفق أنطوني سامراني، الصحفي بجريدة "لوريون لوجور" L'Orient-Le Jour اللبنانية الناطقة بالفرنسية، على أن القوة "المثيرة والمميتة" لمثل هذه الهجمات "تروق للشباب الذي يتوق إلى العنف"، لكنه يصف أيضاً مبدأ "الاستشهاد" بأنه ديني جديد. وكشف بحث في أدبيات الجهاد ومواقعه وصفحات الفيسبوك الخاصة به عن أن مرتكبي الهجمات الانتحارية يعتبرون أنفسهم شهداء مثل، شريف كوشي، الذي وصف نفسه بأنه "مدافع عن النبي". وفي حفل باتاكلان، صاح القتلة بأنهم "جنود الخليفة"، الذين يأتون للقصاص ل"نساء وأطفال سوريا". ومع اندلاع الحرب في سوريا، انطلقت موجة من الجهاد الدولي عززتها شبكات التواصل الاجتماعي. ويدعي هؤلاء الجهاديون العودة إلى جهاد الطلب في الإسلام الذي يمجد "أسود الإسلام"، سواء كان ذلك حمزة، عم محمد (صلى الله عليه وسلم)، أول شهيد في الإسلام، أو أسامة "الأسد" بن لادن. واكتسبت الدعاية الطنّانة أتباعاً في نهاية المطاف. وتحت صورة لأسد ضخم، يكتب الموقع الجهادي الفرنسي المحظور "أنصار الغرباء": "نعيش أسوداً، ونموت أسوداً". ونقلت الصحفية السورية، لبنى مرعي، عن "أبو مريم"، جهادي فرنسي يبلغ من العمر (24 سنة) من تولوز ويحارب في سوريا الآن، قوله: "يُحتمل أن تكون الشهادة هي أقصر طريق للجنة، وهذا شيء لم أتعلمه، بل رأيته مباشرة في إخواني الشهداء. لقد رأيت الرضا على وجوههم، وشممت رائحة المسك من أجسادهم الخامدة. الموت هو الشيء الوحيد الذي ينقصنا لبلوغ الجنة". إن هذا العزم على الموت كشهداء، عن طريق قتل "الكفار"، يأتي نتيجة "تقنيات التلقين المتطرفة للتجاوزات الطائفية"، كما توضح دنيا بوزار، الباحثة في الأنثروبولوجيا ومديرة مركز الوقاية من التطرف الطائفي المرتبط بالإسلام في فرنسا، مضيفةً أنه شكل جديد من أشكال التلقين الديني، الذي يربط الدعاية العاطفية بدعاة الأصولية، وقد بدأنا محاربته توّاً.