قبل أن تنطلق «عاصفة الحزم» العربية لتدك حصون الحوثيين فى اليمن، كانت «الموجز» قد تنبأت بذلك، وكتبتُ فى هذا المكان عن خطورة الحلم المجوسى الذى لا يقل خطورة عن حلم الصهاينة، ولم تكن تلك هى المرة الأولى التى أتحدث فيها عن هذا الكابوس المجوسى الذى يحتل الجزر العربية ويحاصر الدول العربية من كل مكان وينشر ميليشياته على حدودها. ولاشك الآن أن إيران بعد «عاصفة الحزم» تختلف تماماً عن إيران ما قبل العاصفة! إيران المنتفخة التى تهدد وتتوعد دول الخليج لم يعد لها وجود، بعد أن وجدت نفسها فى مواجهة موقف عربى يتجاوز المواقف التقليدية ويتجاوز مجرد إصدار بيانات أو إعلان تصريحات ليدخل حيز الفعل.. والفعل كان فى منتهى القوة وأيضا فى منتهى الحزم والحسم. طهران راهنت على أن الولاياتالمتحدة تغمض أعينها عما تفعله فى المنطقة من تدخلات مباشرة، لكنها فوجئت بأن ما قامت ببنائه وما حلمت به فى اليمن طوال سنوات يتبدد فى ساعات معدودة، بينما ظهرها للحائط ولا يمكنها أن تتخذ أى رد فعل مناسب، إذ إن تدخلها المباشر إلى جانب الحوثيين سيفتح عليها أبواب جهنم. وأصبح فى حكم المؤكد أنها خسرت معركة احتلال اليمن، وتبدد حلمها فى السيطرة على بوابة المصالح الإقليمية، بعد أن حدث الاستثناء الذى لم يكن فى الحسبان ونقصد تكوين جبهة عربية موحدة على رأس أولوياتها قطع الشجرة التى زرعتها طهران فى 1992 وظلت ترعاها وتمولها بكل الطرق وبشتى الوسائل! الأمريكيون أغمضوا أعينهم عن التحركات الإيرانية فى المنطقة، فاعتقدت طهران أن بإمكانها اللعب بمفردها وكأن المنطقة خالية من أهلها، وأنّ العرب.. كل العرب لن يستطيعوا الوقوف فى وجوهها. واستناداً إلى هذا الاعتقاد الساذج أرادت طهران أن تفرض سيطرتها على كامل اليمن بهدف الوصول إلى باب المندب، لإحكام قبضتها على كل دول الخليج وعلى أهم ممر بحرى عالمى، يمر فيه يومياً ما لا يقلّ عن 65% من حاملات النفط إلى كل أنحاء العالم. ما حدث ويحدث ليس تحالفاً سنياً لتقليم أظافر إيران الشيعية كما يروج البعض، لكنه استعادة للتوازن وإنهاء فترة سوداء امتدت لعشرين سنة تقريباً حاولت خلالها طهران أن تدير المنطقة من خلال التلاعب بالنسيج الداخلى لبعض الدول على أساس مذهبى. فلم يعد هناك أدنى شك فى أن الإيرانيين لا يتحدثون بلغة الإسلام، وإنما يعملون بلغة المصالح القومية الإيرانية، التى يضعونها فى وجه (أو ضد) مصالح العرب الذين لن ترضى عنهم طهران حتى يقوموا بتنصيب «كسرى» ملكاً عليهم، ويرجعوا إليه كلما دعت الحاجة إلى اتخاذ موقف سياسى، إقليمياً ودولياً، وربما لتدبير شئون البيت العربى الذاتية والداخلية! والواقع أن مثل هذه «الصيغة» التى وضعتها إيران لعلاقاتها مع العرب ثم مع العالم، كانت تهدف من ورائها، إلى الحصول على المكانة الإقليمية والدولية كقوة عظمى، تمكنها من امتلاك السلاح النووى، وهو الحلم الذى طالما حاولت تحقيقه منذ عهد الشاه الذى اشترى سنة 1974 من فرنسا 10 فى المائة من حصص معمل تخصيب اليورانيوم «يوروديف» مقابل قرض قدمه لمفوضية الطاقة الفرنسية بقيمة مليون دولار فى عهد الرئيس «ديستان»، إلا أن فرنسا أبطلت هذا الاتفاق بعد ثورة الخمينى سنة 1979. غير أن إيران ظلت مصرة على تطوير القنبلة الذرية. وعلى خطى طموح الشاه، سار نظام الخمينى والحرس الثورى. ولهذا لم تجد مشكلة أو حرجاً من الاتفاق مع الغرب (الأوروبى والأمريكى) على الإخلال باستقرار المنطقة العربية بتغذية الصراعات فى لبنانوسوريا والعراق والبحرين واليمن، وتهديدهم يومياً بالدمار والقتل والفقر والبؤس.. إلى جانب محاولات مستمرة ومستميتة للنفاذ إلى الداخل السعودى والمصرى! وليس ما حدث ويحدث فى اليمن غير صورة أكثر وضوحاً من صور المحاولات الإيرانية لفرض سيطرتها على المنطقة، بتدخلها بهذا الشكل الفج والواضح والواسع لتغيير نظام الحكم اليمنى، وهو التدخل الذى كانت طهران قد مهدت له بإرسال السلاح الثقيل والخبراء والمستشارين لدعم حركة عبدالملك الحوثى منذ أطاحت الثورة اليمنية بعلى عبدلله صالح الذى اضطر للتنحى تحت ضغط مجلس التعاون الخليجى. فى ميناء الحديدة بدأت شحنات الأسلحة الايرانية تتدفق على الحوثيين، من طائرات وصواريخ ودبابات روسية الصنع أو روسية الطراز المصنعة فى إيران، وهو ما جعل شبح الحرب الأهلية مخيماً على اليمن وجعل اقتتالاً مذهبياً يهدد بعض المناطق. كما برز الحوثيون كقوة ضاربة مسلحة تسليحاً قوياً، قادرة على اختراق المناطق الوسطى والجنوبية (البيضا، شبوة، أبين...).. وهنا تحوّلت أنظار اليمنيين إلى السعودية ودول الخليج. الموقف السعودى كان يميل أكثر فأكثر إلى التشدّد، خاصة أن تعز سقطت عملياً بيد الحوثيين والقوات الموالية لصالح. بل وتوالت الطلعات الجوية المعادية للرئيس هادى لتقصف مكان إقامته المؤقت فى عدن. بل أسوأ من ذلك عندما حملت الأنباء إمكانية سقوط «لحج» بيد الحوثيين، الأمر الذى جعل السعودية تفصح عن قلقها البالغ حيال التطورات الدراماتيكية، إذ دعا وزير خارجيتها سعود الفيصل فى مؤتمر صحفى مع وزير خارجية بريطانيا إلى ضرورة مواجهة التدخل الإيرانى الخطير فى اليمن. وفى الوقت نفسه قام وزير الدفاع السعودى بزيارة مفاجئة لجازان قرب الحدود اليمنية متفقداً العديد من القطع العسكرية. وأيضا لم يعد سراً أن طهران ظلت تحاول فى الماضى القريب إيجاد موقع قدم لها فى السودان، إلا أن تطور الأحداث فى مصر رجح كفة عودة البشير إلى الأسرة العربية، والتطورات بشأن النيل. إلا أن ذلك لا ينبغى أن يبعد أعيننا عن نشاط إيران العارم فى أريتريا التى تستقبل قطع البحرية الإيرانية وتقدم العون للحوثيين.. ولعل هذا يفسر بوضوح الصيغة التى تعاملت بها مصر خلال الأيام الماضية مع إثيوبيا والسودان والتى لم يكن ملف سد النهضة فقط محل النقاش يين الأطراف الثلاثة. غير أن الساعات القليلة التى قامت خلالها القوات العربية بتدمير كل الدفاعات الجوية الحوثية، جعلت طهران تصطدم بواقع جديد لم يكن فى حساباتها.. واقع قلب المشهد رأسا على عقب.. أو بمعنى أدق، قلب المشهد على رأس طهران! دخول مصر وباكستان على خط المواجهة، أجبر الشيطان الفارسى على إعادة كل حساباته وإعادة تصوراته للصيغة التى أراد بها أن يحقق حلمه القديم الدائم. وأول هذه الحسابات والمراجعات هو إدراكه أنه أضعف من مواجهة تحالف عربى مكتمل القوة والعتاد. أضف إلى ذلك أنه تمت تسمية إيران بالاسم مراراً وتكراراً الأمر الذى يقلل هامش الردود الإيرانية الميدانية. وعلينا هنا أن ننظر بعين الاعتبار إلى أن الولاياتالمتحدة سحبت كل عناصرها من اليمن، قبل ساعات من ارتكاب جماعة الحوثى لحماقة التحرك باتجاه عدن! صحيح أن الحوثيين فى اليمن سبق لهم أن دخلوا فى تجربة مواجهة عسكرية مباشرة مع السعودية خلال الأعوام الماضية، إلا أن الأمر مختلف هذه المرة إذ لم يعد الصراع نزاعاً حدودياً كما فى السابق بل على كل الجغرافيا اليمنية البالغة أكثر من 500 ألف كيلومتر مربع بعدما نجح الحوثيون فى الخروج من معقلهم الأساسى صعدة الجبلية وبلغوا فى رحلة تمدد وعرض قوة صنعاء وأخيراً عدن على سواحل باب المندب الاستراتيجى، وصار يشار إليهم على أنهم حلفاء طهران الخلّص كحال «حزب لله» فى لبنان. كما أن للحدث اليمنى مقدمات تراكمية أبرزها أن الرياض لم يعد فى مقدورها إدارة صراعها الطويل مع طهران وفق قواعد اللعبة المعروفة، لذلك قررت انتهاج تجربة أكثر صدامية وجرأة بعد ظهور مقولة إن طهران نجحت فى بسط نفوذها المباشر على 4 عواصم عربية خلال أقل من عشر سنوات! وهو الأمر الذى لم تعد تجدى معه سياسة الحلم والتروى التى كانت تتبعها السعودية ودول مجلس التعاون الخليجى، وجعل من الضرورى أو الواجب الحتمى إنهاء هذا الاستفزاز بما يشبه الضربة القاضية، وبما يطوى الصفحة التى كانت إيران تتعامل فيها مع الدول العربية وكأنها «لا شىء»! بهذا الشكل، يكون واجباً أن نتوقف عند ظهور حسن نصر لله الأمين العام ل«حزب لله» فى المشهد، إذ لا يمكن ترجمة رد فعله الغاضب بغير كونه ترجمة لجزء من غضب إيران! غضب يتناسب مع انهيار الحلم القديم المتجدد، يمكننا أن ندرك حجمه بالعودة إلى قيام الخمينى قبل أعوام قليلة من وفاته بتوجيه الحجاج الإيرانيين إلى التظاهرات الشهيرة فى مكة سنة 1987 والتى أدت إلى سقوط مئات القتلى والجرحى!. ذلك واحد من التحديات والمعطيات العديدة التى فرضت نفسها بقوة على جدول أعمال القمة العربية ال26، التى استضافتها مدينة شرم الشيخ والتى كان فى مقدمتها تحديات الأمن القومى العربى، وتطورات الأوضاع فى سوريا والأزمة الليبية، بالإضافة إلى بحث ملف مقاومة ومكافحة الإرهاب، وتفعيل اتفاقية مكافحة الإرهاب المُوقع عليها من معظم الدول العربية، وأيضاً تفعيل اتفاقية الدفاع العربى المشترك، المنصوص عليها بميثاق جامعة الدول العربية، وبحث ملف القضية الفلسطينية، ودعم موازنة فلسطين ومتابعة التطورات السياسية للقضية وتفعيل مبادرة السلام العربية. حسن نصر لله هو رد الفعل الإيرانى الظاهر، أما «الفعل» الإيرانى غير الظاهر، فيمكن تجسيده أو تلخيصه فى شخص لم يكن معروفاً من قبل.. ونقصد قاسم سليمانى