ثمة مؤشرات عديدة تشير إلى إمكانية لعب المال السياسى دورا حاسما في الانتخابات البرلمانية المقبلة، الاستحقاق الانتخابى الثالث الذى بموجبه يكتمل بناء مؤسسات الدولة وفق خارطة الطريق التى اتفقت عليها القوى السياسية في البلاد فى أعقاب ثورة 30 يونيو. ويعد المال السياسى من أبرز العوامل المؤثرة في العمليات الانتخابية السابقة في دولة لازالت تشهد ارتفاعا في معدلات الفقر والبطالة من جهة وضعف الأحزاب وعجزها حتى بعد قيام ثورتين عن إعادة بناء نفسها ودعم قدرتها على الحشد والتعبئة واستمرار الاحتفاظ بقواعدها من المواطنين من جهة أخرى. لكن تبرز هذه المرة مشكلة توظيفه انطلاقا من عدة اعتبارات أولا، كونه المؤثر الأكبر في تحديد مسار التحالفات الانتخابية المقبلة والدافع لقرارا بعض الأحزاب بتشكيلها لخوض الانتخابات، وقرار البعض الأخر خوضها منفردة استنادا لقدرتها المالية. أما ثانيا، التداخل الواضح ما بين المال السياسى والأحزاب ووسائل الإعلام في مصر ، وهو ما يطرح عدد من التساؤلات حول دور هذا الثالوث في الانتخابات، وأخيرا، اتساع نسبة المقاعد الفردية بنسبة الثلثين مقارنة بالقائمة وبالتالى يستدعى ذلك توافر قدرة مالية تمكن من التنافس على المقاعد الفردية، مما يعنى خروج فئة الشباب من دائرة المرشحين للبرلمان المقبل والتواجد القوى للعائلات ورجال الأعمال، كما أن السياق السياسى في مصر الأن وما حدث بعد ثورة 30 يونيو والتى أظهرت انقساما ليس داخليا فحسب بل إقليميا ودوليا وارتباط جماعة الإخوان المسلمين ببعض الأطراف الخارجية قد يدفع في اتجاه الدعم المالي لمرشحي التيار الأصولي المناهض لما بعد 30 يونيو من جانب قوى خارجية خاصة وأن التنافس على المقاعد الفردية يتيح الفرصة أمام ترشح شخصيات قد تكون غير معروفة وبالتالي غير معلوم خلفياتها وانتماءاتها. وبالتالي فالمال السياسي قد يكون داخليا وخارجيا. ويتخذ عدة صور نقدية وأخرى عينية يتم من خلالها شراء أصوات الناخبين والإنفاق على حملات الدعاية الانتخابية وحتى التنسيق فيما بعد انتخاب البرلمان مع بعض المرشحين للتصويت وفق مصالح معينة. ثمة أشكال عدة يظهر من خلالها المال السياسى منها: 1- رجال الأعمال والعائلات والعصبيات: فتح قرار محكمة مستأنف الأمور المستعجلة بإلغاء قرار منع قيادات الحزب الوطنى من الترشح فى الانتخابات البرلمانية الصادر فى يوليو 2014 المجال أمام عودة كثير من رجال الأعمال المنتمين للحزب الوطنى للاستعداد لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهو ماحدث فعليا في إعلان بعضهم الترشح في دوائرهم ودخول البعض في التحالفات الانتخابية المعلنة الأن، وفتح الباب أمام ترشحهم على المقاعد الفردية التى تحوز على نسبة 80 % من مقاعد البرلمان. كذلك تلعب كبار العائلات التى لها مصالح وتاريخ برلمانى قديم دورا في إقامة الولائم والانفاق على الدعاية والحشد لمرشحيها كما في محافظات الصعيد والدلتا. 2- أحزاب رجال الأعمال...ذات الملاءة المالية: أفسحت ثورة يناير المجال لعدد من رجال الأعمال للعب دورا سياسىيا مباشرا من خلال تأسيس أحزاب سياسية قد يكون الدافع من وراء ذلك الدور السياسى المباشر إما حماية المصالح السياسية والاقتصادية أو انطلاقا من قناعة البعض بالمساهمة في بناء دولة مدنية خاصة في فترة سيطر عليها التيار الدينى الإسلامى الذى تبنى وقتها شعارات تطبيق الشريعة في ظل إثارتها مناخ طائفى. وقد شاركت تلك الأحزاب في مراحل التحول الديمقراطى التى عاشتها مصر منذ 2011، بداء من الانتخابات البرلمانية في 2011 والموقف من الدستور 2012 وتأسيس جبهة الإنقاذ. أحد ابرز تلك الأحزاب حزب المصريين الأحرار لمؤسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس. وهناك أحزاب قديمة لكنها تتنمى لرجال أعمال مثل حزب الوفد الذى يرأسه الدكتور السيد البدوى. 3- التيار الإسلامى وتسلل عناصر الأخوان المسلمين. تعد أحزاب التيار الإسلامي أحد القوى التى لديها موارد مالية كثيرة، فالمؤشرات تشير إلى دعم جماعة الإخوان المسلمين ماليا من التنظيم الدولى للإخوان المسلمين بالإضافة إلى تلقى الدعم من قوى إقليمية بالمنطقة، ويدعم ذلك تصريح وزير المالية الأسبق الدكتور سمير رضوان بتاريخ 13-2-2014 لصحيفة الوطن حول أن تحويلات العاملين بالخارج قد ارتفعت عام 2013 من متوسط سنوى يبلغ ما بين 6- 8 مليار دولار إلى 18 مليار دولار في العام الذى حكم فيه الإخوان والذى أرجع فيه الفرق إلى تدفق التمويل السياسى الخارجى لجماعة الإخوان المسلمين. وقد برز توظيف الجماعة للمال وقت الانتخابات من خلال توزيع المساعدات العينية على قرى محافظات مصر. ومع قرار المحكمة بحل حزب الحرية والعدالة في أغسطس 2014 فمن المتوقع في ظل اعتبار البرلمان المقبل آخر فرصة أمام الإخوان للحاق بقطار السياسة في مصر أن تتسلل عناصر منهم وتترشح من خلال أحزاب إسلامية أخرى أو أحزاب مدنية في مقابل تقديم الدعم المالى وأصوات قواعدها. أوجه توظيف المال السياسى في الانتخابات المقبلة: تتعدد وتتشابك المجالات التى سيتم من خلالها توظيف المال السياسى في الانتخابات البرلمانية المقبلة. ويبرز هذا الدور من خلال التأثير على التحالفات الانتخابية في كل مراحلها بدءا من تشكيلها مرورا بالدعاية الانتخابية وحتى بعد انتخاب البرلمان لذا سنعرض في السطور الآتية حدود تأثير المال السياسى على العملية الانتخابية في مصر في مرحلة : أولا: مرحلة تشكيل التحالفات 1- تشكيل التحالفات الانتخابية: على الرغم من إعلان الأحزاب والكيانات السياسية المدنية في إطار الاستعداد لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة محاولات لتشكيل تحالفات بين أحزاب سياسية وبعضها البعض وبين منظمات المجتمع المدنى مثل تحالف النقابات المهنية، وأن الهدف من تشكيلها الحصول على أكبر عدد من المقاعد لمنع سيطرة التيار الإسلامي على البرلمان المقبل والذى ستكون له صلاحيات مهمة وسيلعب دور في تشكيل الحكومة، خاصة بعد استحواذ الإسلاميين البرلمان الماضى على 70% من المقاعد و حصول التيار المدني على 30% فقط. إلا أن مفاوضات تشكيل التحالفات التى لم تتشكل نهائيا إلى الأن وانهيار بعضها تشير إلى هشاشة الهدف الذى تسعى لتحقيقه وأن العامل المؤثر في تلك المفاوضات هى الأحزاب ذات القدرات والموارد المالية الأعلى، ففى العموم تحدث التحالفات الانتخابية بغية تحقيق تأثير أكبر مما يمكن أن تحققه الاحزاب منفردة خاصة في ظل استمرار ضعف الدور السياسى للأحزاب، كما تهدف الأحزاب من التحالفات تعويض بعض العناصر التى تفتقدها مثل القواعد العريضة أو الموارد المالية والدعاية الانتخابية. وفى الأجواء الحالية نجد أن المال السياسى هو الذى دفع الكثير من الاحزاب الفقيرة والصغيرة إلى الدخول في تحالفات ودفع أحزاب كبيرة إلى اشتراط وضع مرشحيها على رأس قائمة التحالف. وفى المقابل فإن الملاءة المالية الكبيرة لحزب مثل حزب المصريين الأحرار الذى يدعمه رجل الأعمال نجيب ساويرس دفعته إلى الإعلان عن خوضه الانتخابات البرلمانية منفردا ومنافسا على جميع المقاعد الفردية دون حاجته للدخول في تحالفات رغم استمرار مفاوضات الأحزاب معه لإقناعه بالتحالف معهم. 2- التنافس على المقاعد الفردية: وفقا لقانون مجلس النواب رقم 46 لسنة 2014، ستجرى انتخابات مجلس النواب بواقع 420 مقعد بالنظام الفردى و120 مقعد بنظام القوائم المغلقة المطلقة. ، ويحق للأحزاب والمستقلين الترشح في كل منهما. وقد أبدت القوى السياسية اعتراضها على النسبة بين المقاعد الفردى والقائمة التى أتاحها القانون معتبرة انه يطرح سطوة رأس المال باعتبار أن المقتدر ماليا يمكنه المنافسة على المقاعد الفردية وهو ما يفسح أغلبية البرلمان أمام المقتدرين فقط من رجال الأعمال وعناصر الحزب الوطنى في حين أن الأحزاب الأخرى مازالت مهمشة وفقيرة. كما يغلق الباب أمام فرص ترشح الشباب والمرأة الإ من خلال قوائم الأحزاب بحسب الحصة التى خصصها قانون مجلس النواب. 3- ثالوث المال السياسى والأحزاب والإعلام نظريا لم تعد سمة الإعلام الموجه تقتصر على الإعلام الرسمى حكومى في ظل سيطرة رأس المال على كثير من وسائل الإعلام الخاصة، مما أنتج حالة من تشابك المصالح. فكثير من وسائل الإعلام المصرية الخاصة المقروءة والفضائية مملوكة لذوى المصالح من رجال أعمال ورؤساء أحزاب ومرشحين محتملين للبرلمان وحتى بعض الإعلاميين اصبحوا مرشحين محتملين. وتشهد مصر زخما إعلاميا يتعامل مع القضايا السياسية والاجتماعية ويلعب دورا في التأثير في المزاج العام للمواطنين. وهنا يبرز التساؤل حول أداء وسائل الإعلام تلك، كيف ستستخدم للترويج لصالح حزب أو شخص؟ وهل ستفرد المساحات المتساويات لكل المرشحين؟ هل سيتم استخدامها في الإساءة للمنافسين؟ تطرح هذه الأسئلة في ظل إمكانية استخدام تلك القنوات والصحف للترويج لبرامج مرشحيها بالشكل الذى يتجاوز الحد الأقصى الذى حدده قانون مباشرة الحقوق السياسية فيما يتعلق بإنفاق كل مترشح، وتطرح كذلك فى ظل غياب وضع ضوابط لاستخدام الإعلام الخاص من قبل الدولة. فقد حددت الدولة في الفصل الرابع من قانون مباشرة الحقوق السياسية ضوابط استخدام وسائل الإعلام الحكومية فقط. ويمكن الاستدلال من تقرير الاتحاد الأوروبى الذى أشاد بحيادية أداء وسائل الإعلام الحكومية تجاه مرشحى الانتخابات الرئاسية، في حين أنتقد موقف الإعلام الخاص عن أداء الإعلام الخاص. دور الدولة في ضبط الإنفاق على الانتخابات: حدد المشرع في الفصل الرابع من قانون مجلس النواب المادة 25 الحد الأقصى للإنفاق سواء في النظام الفردى أو في القائمة، على أن يفتح المرشح حساب في أحد البنوك التى تحددها اللجنة العليا للانتخابات، كما حدد آلية مراقبة ما يخصصه المرشح وما يتلقاه من هبات ومساعدات على أن يفحص ذلك من خلال جهة تحددها اللجنة. في النهاية.. لابد من تحديد الآليات التى ستقوم من خلالها اللجنة بمراقبة الأموال المخصصة للانتخابات، وأن يمتد عملها لرصد التجاوزات التى قد تحدث من قبيل توزيع هدايا ومساعدات عينية في المناطق الفقيرة والريفية. كذلك التحويلات التى قد تأتى من الخارج ويمكن أن تكون دعم موجه لعناصر التيار الإسلامي. لكن برغم محاولات المشرع ضبط المعايير التى تساعد في نزاهة العملية الانتخابية، إلا أنه من جهة ستظل معدلات الفقر والبطالة والأمية محفزات لاستمرار شراء الأصوات، ومن جهة أخرى لابد من التوعية بضرورة التزام كل وسائل الإعلام الحكومية والخاصة بمعايير الحيادية وميثاق شرف إعلامي وفى هذا الصدد قد يكون من الأفضل توجه السيد رئيس الجمهورية نحو إصدار قرار ملزم لكافة أجهزة الإعلام الرسمية وغير الرسمية بضوابط تحقيق تكافؤ الفرص وعدم التمييز بين المترشحين أو الإساءة إليهم. ثانيا: مرحلة ما بعد انتخاب البرلمان: بعد انتخاب البرلمان من المرجح أن يظل المال السياسى يتحرك داخل البرلمان بشكل يؤدى إلى حدوث تنسيق وتحالف سياسى لدعم اجندة تشريعية معينة وفقا لمصالح حزبية وشخصية ضيقة مرتبطة بأطراف داخلية أو خارجية للتأثير على أداء البرلمان المقبل. فقد تتحالف الأحزاب الصغيرة مع الأحزاب ذات القدرة المالية الكبيرة أو يتم التنسيق مع المرشحين المستقلين، وبالتالى يعد المال أحد المحفزات لتسيير تأسيس ائتلافات وتحالفات سياسية ذات أجندة تشريعية معينة أو للتأثير على قرارات بعينها. قد يصعب على الحكومة أن تتعامل مع معضلة المال السياسى وتحجيم أثره خاصة فى مرحلة ما بعد انتخاب البرلمان، إلا أنه ينبغى تشديد الرقابة على وممارسة اللجنة العليا للانتخابات اختصاصاتها فى هذا الشأن.