ذات يوم، رفضت إحدى المدارس الأمريكية القريبة من بيت آلان كينج الممثل الكوميدي الشهير تسجيل أطفاله بها، بحجة أن منزلهم لا يقع في نطاقها الجغرافي. ساعتها لم يتمالك الرجل عقيرته، فقال متذمرا: "نسكن مقابل المدرسة ولا يحق لأطفالنا الالتحاق بها؟ إن هذا لشيء عجاب. لطالما وقفت أمام منزلي وبصقت على جدران المدرسة في مناسبات عدة. لكنهم يدّعون اليوم أن حدود المنطقة التعليمية تشطر منزلي نصفين. لهذا - وطبقا للوائح - يستطيع أطفالي الالتحاق بالمدرسة إن ناموا بالمرآب. من الآن فصاعدا سيغلق أطفالي أجفانهم في المرآب، ولتذهب غرف النوم البعيدة إلى الجحيم." لم يدرك الممثل الأمريكي المغلوب على شتاته أن هناك شعوبا في الإنسانية تشاطره أزمة الانشطار والتبعثر حول حدود مصطنعة فرقت القوانين جدرانها ومزقت انتماءات ساكنيها ووزعتهم على انتماءات شتى - ينتمي بعضها للمرآب، وبعضها لغرف النوم المكيفة. هكذا تساهم فلسلفاتنا الدراسية على تكريس الحدود وترسيم الأسلاك الشائكة فوق خرائط جماجمنا، فتفصل بين البيت والمرآب وبين الوعي والمدرسة. وفي همجية غير مسبوقة تتحدى الخطوط الحمراء هوية بصقاتنا فوق تربة تنكر أحماضنا النووية وملامحنا المشتركة. لهذا خرج الدارفوريون على معابدهم الشمالية، وتمرد أبناء سيناء على دورياتنا وحراس حدودنا، لأنهم اكتشفوا فجأة أنهم خارج حدود مناطقهم الجغرافية. لكن صناع القرار في بلادنا لا يرون في انتهاك الحدود وقتل الجنود غير تمرد يسير قمعه وشيك إقحامه في محيط لم ينتم يوما لآلامه ولا لغرف نومه الصفيحية. وهكذا تتمزق ليبيا وتتوزع سوريا وتتشظى لبنان ويرحل فلسطينيو الشتات إلى شتات جديد. هكذا تفقد الخرائط ملامحها وتتوزع بسمات الرضا وانفلاتات الغضب على قاطني الخرائط لأن البلاد لا تجيد توزيع القمح على أفراخها وتفشل دوما في جمع زغب أطفالها في فصل واحد. ولأن مناهجنا الجغرافية توزع معلوماتها على المقربين من العواصم وتترك خارج وعيها سكان الحدود الذين لا تغريهم التعديلات الدستورية ولا تبدل الحكومات لأنهم يعلمون أنهم لا ينتمون إلى جغرافيتهم، وأنهم بعيدون دوما عن حضن الخرائط. لا نلوم حاملي السلاح القادم من بين الأسلاك الشائكة على التخلي طواعية عن غرف نوم لم تنتم للوطن يوما إلا إذا تحملنا وبنفس القدر من المسئولية نفيهم خارج مناهجنا الوجودية وإلقائهم في سفح التجاهل والإحباط والإغراءات العابرة للخوذات والبنادق. علينا أن نعترف أن كثيرا من حواصل المواطنين هناك تمتلئ بمرارة الاغتراب، ويسكنها الحنق على حدود تشطر انتماءاتهم وتوزعهم على الخرائط فوق الحدود غير المرئية لساكني الأبراج والقصور من المسئولين. لا سبيل إلى وحدة ما تفرق من وعي إلا بإلقاء الضوء على بؤر التجاهل التي تفت في عضد الوطن، ولا مندوحة عن توحيد ما تفرق من غرف نوم ومرائيب. ولابد من توزيع عادل للاهتمام والفصول والمناهج لمحو حدود ظلت تحمر يوما بعد يوم دون أن يلقي إليها ساكنو القصور الرئاسية بالا. ولا مناص من تسوية كل الحدود بالأرض ليسلم جسد الوطن الآخذ في الذبول يوما بعد يوم من سرطان الفتن والمؤامرات والتوقف عن التعامل الأمني مع القضايا الجغرافية التي ستستمر حتما في السيطرة على الفكر الإمبريالي في سنواتنا العجاف القادمة. ولا يجب أن تلهينا الحدود المعادية عن حدودنا الداخلية التي تزداد تعمقا يوما بعد يوم حتى يصفو شمال اليمن لجنوبه وتتلاشى سخائم القلوب بين حماس فلسطين وفتحها. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]