عندما تتحول القيم الثقافية والأفكار العقائدية إلى مجرد شعارات تحمل خلفها مصالح فردية لاتخدم فقط سوى أصحابها، وعندما يتحول المثقفون إلى مجرد أبواق تعبر عن نوايا القادة ومصالح رجال الأعمال وطموحاتهم ومطامعهم المادية والاجتماعية والسياسية؛ فإن المجتمع بات يعانى من أزمة حقيقية قادرة على تجاوز الآصالة وضياع هويته وملامحه التى تشكلت عبر سنوات طويلة، بنى أصحابها أهراماً من المبادئ والقيم التنموية التى استطاعت أن تتجاوز الزمان والمكان، و ظهرت قيم جديدة متأزمة خالية من أى مضامين تنموية، بل اتخذت من الاستهلاك هدفاً لديموميتها واستمرارها ومن النفاق سبيلاً لتحقيق مصالحها، وبات النفاق لغة تعبر عن مرحلة اجتماعية متأزمة، ساد فيها شعار " المصلحة مقابل النفاق". ولم يكن الخطاب النفاقى وليد مرحلة تاريخية بعينها، بل مر بكثير من التغيرات التى أحدثت تغيرات فجة فى شكله، حيث أن التغيرات التى طرأت على الخطاب النفاقى معظمها تغيرات فى الشكل دون المضمون الذى كان دائماً – ولايزال- يعبر عن المصلحة الشخصية القحة، وإن كان ثمة تغيرات فى درجة المصلحة ومداها، حيث ارتبط هذا المدى بتطور فعاليات المجتمع وتعدد وتنوع وسائل الإعلام والتعبير فيه. وإذا كان الشعراء قديماً كانوا لايملكون سوى أشعارهم وعباراتهم المنمقة والبراقة التى يلقونها فى وجوه الملوك والأمراء فى كل محتفل ومجلس طمعاً فى نفحات أو قل هبات تعينهم على أمور حياتهم، فإن الخطاب اليوم تعدى مصلحة القوت اليومى إلى مدى أوسع من ذلك وهو شمولية المصلحة وتكاملها، حيث أن علاقات أوسع تعنى مصالح ومكاسب أكثر، وإذا كان النفاق كان دائماً هو الورقة الرابحة والوسيلة الفاعلة فى تشكيل هذه العلاقات ؛ فإن تطور واتساع حركة هذا الخطاب لازمه تطور واتساع أيضاً فى شكل ومدى الفساد الذى أصبح آفة تأكل فى أواصر المجتمع ومؤسساته وأنظمته المختلفة وتبدأ بوأد مصالح الضعفاء غير القادرين على ممارسة هذا الخطاب . كما شكل الخطاب النفاقى وسيلة سهلة فى التنقل بين الطبقات الاجتماعية والإسراع بخطى الحراك الاجتماعى ، وأعاد ألقاب كانت قد انتهت منذ نهاية النصف الأول من القرن العشرين مثل الباشا والبيه ومعاليك وسموك وغيرها . ولعبت وسائل الإعلام بتنوعها وتعددها دوراً مهماً فى دعم هذا لخطاب وتعزيزه من خلال الصفحات الاجتماعية بالجرائد والمجلات لتهنئة فلان وتعزية علان أو ذكر مسئول بدون داعى؛ ونتيجة لذلك ظهر الفن الهابط الذى لوث أذان ومسامع الجماهير وذلك عندما تعاون أصحاب هذا الخطاب من الصحفيين والإعلاميين مع أنصاف الفنانين مدحاّ وتفخيماّ؛ فضاعت أصالة الفن وأخذ مساراً أخر مجهول الهوية لا هو غربى ولاهو شرقى . وإذا أردنا التأريخ لحركة هذا الخطاب وهذا الشكل من التطور فإنه ظهر منذ السبعينات من القرن العشرين وبالتحديد عام 1974 عندما تم إعلان سياسات الانفتاح الاقتصادى التى كرست مفاهيم عدم الانتماء والربح السريع مقابل الجهد الأقل ، حيث تقول فى ذلك منى أبو سنه عند تحليلها لفترة ما بين 1974 حتى 1984 أن هذه الفترة تنطوى على ثلاثة تيارات هى اللاثورية واللانتاج واللاعلمانية وتمثل هذه التيارات فى مجملها نواة للتخلف الحضارى ، حيث تجسد التيار اللانتاجى بظهور طبقة طفيلية غير منتجة تروج لقيم لا حضارية وشعارها أقصى ربح بأقل جهد. وأضاف نبيه الأصفهانى من خلال ملاحظاته على سياسات الانفتاح الاقتصادى أنها أدت إلى تقلص الإنتاج وتكريس الاعتماد على الاستيراد؛ مما أسهم فى تأسيس السوق السوداء، وانفجر التفسخ الاجتماعى فى مظاهرة الجياع التى حدثت فى يناير 1977 والتى أسهمت فى تدعيمها هجرة المصريين عمالاً ومثقفين إلى دول الخليج. وعموماً فإن مع هذه السياسة أبرزت قيم تتناقض مع الحقبة الناصرية مثل عدم الانتماء وتكوين ثروات طائلة دون عمل منتج حقيقى، ووقع الكل فى شباك هذه الأنشطة غير المنتجة؛ ولهذا فقد أحدثت هذه الفترة تغييباً للضمير الاجتماعى الذى هو آلة لإنتاج قيم العمل والانتماء أو قل الإنتاج ذاته . وبتطور المجتمع تعددت مشكلاته واحتياجاته وكلما تعددت المشكلات تعددت المسئوليات وتعدد المسئولون وكلما تعدد المسئولون تعددت وتنوعت الحاشيات ومن ثم تشكل وتعدد الخطاب النفاقى وتنوعت وتعددت أشكال الفساد. وإذا كان الضمير قد أفرز قيماً ومبادئ ومن ثم ثقافات شكلت هوية المجتمع وحافظت على أصالته رغم ما تعرض له المجتمع المصرى من ظروف وتحديات على مدى تاريخه الطويل وعبر عنه أشخاص حملوا مشاعل النور للإنسانية برمتها وللمجتمع المصرى بخصوصيته، وانتشرت عدوى الضمير حتى أفرزت فى حقبة زمنية واحدة كوكبة من الزعماء الذين انشغل كل واحد منهم عن هموم نفسه بهموم مجتمعه؛ فلم يكن من التاريخ أن خلد هؤلاء الأصدقاء الذين نقلوا التاريخ المصرى نقلة حضارية غير مسبوقة أمثال أحمد عرابى ومحمد نديم ومصطفى كامل وسعد زغلول وقاسم أمين وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم وهى فترة نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين .وكما أفرز الضمير تلك القيم التنموية الفاعلة التى واجهت ووجهت كل التغيرات لصالح المجتمع , فإن غياب الضمير أفرز قيماً مضادة ومعادية للمعرفة والإنتاج والإبداع؛ أدت فيما أدت إليه إلى نشر الفساد والعنف والتخريب. وعموماً فلم يعد الخطاب النفاقى قاصراً على طائفة اجتماعية بعينها بل أصبح خطاباً عاماً يمارسه كل مواطن لكل مسئول كشرط واجب لقضاء مصالحه، وهذا ما جعلنا نتسأل : إذا كان النفاق هو الجزية التى تدفعها الرذيلة للفضيلة فهل هذا يعنى أن نسبة الرذيلة فى المجتمع أكبر من الفضيلة مادام عدد المسئولين أقل من العملاء فى أى مؤسسة ؟ وإذا كان النفاق هو الأداة التى غيبت الضمير الذى أفرز بدوره قيم الفساد فمن أين نبدأ الإصلاح والمشهد النفاقى يتكرر اليوم فى حضرة الرئيس الجديد؟ [email protected]