يسير المشهد السياسي المصري صوب مزيد من الضبابية والهلامية بما يدعو إلي القلق أكثر منه إلي التفاؤل وإلي الخوف علي المستقبل أكثر منه الأمل في مصر جديدة نريدها جميعا تولد لدي كل مصري عقب ثورة يناير. فمن يتأمل تفاعلات هذا المشهد سواء في أزمة تشكيل اللجنة التأسيسية لإعداد الدستور أو في تناقضات الترشح لرئاسة الجمهورية يدرك أن مصر تواجه خطرا حقيقيا يتجسد في أننا نعيش ديمقراطية ولكن دون أناس ديمقراطيين ودون تقاليد ديمقراطية تحكم هذه التفاعلات وتجعلها تسير في الطريق الصحيح الذي نبتغيه. فمصر في عهد النظام السابق كانت لديها ديمقراطية, ولكنها ديمقراطية شكلية تمثلت في وجود مؤسسات برلمانية ورئاسية وأحزاب شكلية لكن دون فاعلية وارتكزت علي التزوير وتزييف إرادة المواطن ومنطق الإقصاء والتهميش لكل من يختلف مع هذا النظام, وشكل ذلك البيئة المواتية لاشتعال ثورة يناير, لكن بعد الثورة لم يختلف الحال كثيرا, فصحيح أن انتخابات مجلسي الشعب والشوري جرت بطريقة نزيهة إلي حد ما وسط إقبال جماهيري مكثف, إلا أن طريقة التفكير لم تتغير فكان التركيز علي مخرجات الديمقراطية أكثر من العملية الديمقراطية ذاتها, وبدا وكأن كل قوة سياسية تمارس الديمقراطية علي طريقتها الخاصة, فتقبل ديمقراطية الصندوق إذا كانت سوف تقود إلي ما تبتغيه لكنها تمارس منهج الإقصاء والتهميش, وهذا يعني أننا إذا كنا قد قبلنا بالديمقراطية كأداة لإدارة العملية السياسية فإننا لم نتشرب تقاليد وثقافة وقيم الديمقراطية التي ترتكز علي احترام التعددية والاختلافات في وجهات النظر وإدارة هذه الاختلافات بطريقة سلمية وحضارية وتحويلها إلي عامل ثراء للمجتمع وليس عامل تناحر واستقطاب يضر بالمصلحة الوطنية في نهاية المطاف, كما أنها تعني التوافق بين مختلف التيارات السياسية علي مصلحة وتطورها وتقدمها. والديمقراطية بطبيعتها تصحح ذاتها بذاتها, فحتي لو أنه في مرحلة تاريخية معينة أفرزت الديمقراطية التصويتية, تيارا بعينه في البرلمان أو مرشحا ما في الرئاسة أيا كانت أو كان انتماؤه, وذلك نتيجة للقدرة علي حشد الأصوات, فإن المعيار الأساسي لنجاحه أو فشله, ومن ثم محاسبته وفقا للتقاليد الديمقراطية الرصينة, هو القدرة علي الإنجاز الاقتصادي والسياسي, بحيث يستطيع هذا التيار أو هذا المرشح أن يحصل علي دعم الناخب مرة ثانية لانتخابه إذا أحسن أو أن يرفضه الناخب إذا فشل وذلك عبر صندوق الانتخابات. وإذا كان تعدد مرشحي الرئاسة وتعدد انتماءاتهم السياسية والدينية يمثل ظاهرة صحية في حد ذاته لأنه يعكس منطق التعددية في المجتمع, وإذا كانت هناك عقبات أمام اختيار الشخص المناسب تتمثل في ظاهرة الاستقطاب الديني والفقر ونسبة الأمية العالية وانحياز الإعلام لطرف دون الآخر لاعتبارات أيديولوجية, فإن الرهان الحقيقي هو علي وعي المواطن المصري الذي قام بثورة يناير, في اختيار الشخص الذي يمثله والذي يعمل علي تحقيق أهداف تلك الثورة في تحقيق حياة حرة وكريمة وأن تكون لديه المعايير الموضوعية في عملية الاختيار الرشيد لأن هذا هو الضامن لفرز الصالح من الطالح وكذلك ضمان استمرار روح الثورة في تغيير مصر إلي الأفضل. كذلك فإن أزمة الجمعية التأسيسية تعكس غياب ثقافة الديمقراطية في ظل منطق احتكار الأغلبية ومزايدة الأقلية, كما تعكس أزمة الوعي بفلسفة الدستور ودوره في المجتمع, وبالطبع فإن التقاليد الديمقراطية هي المخرج من تلك الأزمة وذلك عبر الحوار وتغليب المصلحة العامة علي أية مصالح أو اعتبارات أخري. وفي ظل مجتمع ينتقل من مرحلة لأخري ويواجه تحديات سياسية واقتصادية وأمنية صعبة, فإن الديمقراطية الحقيقية لن تتحقق بين عشية أو ضحاها أو حتي في فترة انتخابية واحدة, ولكنها عملية تراكمية ترتكز علي التسامح واحترام حق الاختلاف وأن تكون قيم الديمقراطية نمط سلوك حياتي يومي لدي المواطن, وفي ظل منظومة ديمقراطية متكاملة تتطلب وجود برلمان فاعل وقادر علي ممارسة دوره التشريعي والرقابي بفاعلية, ووجود أحزاب سياسية تؤدي دورها في التنشئة السياسية وتفريخ العناصر القيادية, وفي وجود إعلام حر ومستقل ولديه المسئولية, وفي ظل استقلال القضاء وثقافة احترام وسيادة القانون والدستور, ووجود آليات الثواب والعقاب, وآليات صحيحة للفرز والحراك الاجتماعي والتصعيد ترتكز علي الكفاءة والقدرة علي العطاء ومن ثم اختفاء الفساد والمحسوبية, وفي ظل التعايش بين كل الاختلافات السياسية والدينية. ولاشك أن التعليم هو المدخل لتغيير ثقافة المجتمع وترسيخ ثقافة الديمقراطية لتصبح سلوكا يحكم المواطن في كل أفعاله ومواقفه سواء في عمله أو في علاقاته مع الآخرين أو في دوره في المجتمع أو دوره السياسي, وفي كل الأحوال عندما تترسخ ثقافة الديمقراطية نستطيع القول إن مصر قد تغيرت بالفعل وإن هناك ديمقراطية حقيقية يمارسها أناس ديمقراطيون حقيقيون, أما استمرار المنهج الحالي من الاستقطاب والصراع فإنه يلقي بمزيد من الضبابية علي مستقبل مصر وثورتها. المزيد من مقالات احمد سيد احمد